الفصل الحادي عشر
وقف نبيل مقطب الجبين, و أبلغ آيات الحزن ترتسم على ملامحه, قرب باب غرفة العمليات في مستشفى الطوارئ.. بينما جلس والدا لينا على مقعدين, كانت والدتها لا تكف عن البكاء بينما والدها يربت على كتفها و يحاول أن يبدو متماسكا...
تطلع الوالد إلى نبيل ثم نهض متجها إليه:
-بني, إنك تقف هكذا منذ ست ساعات, تعال و إجلس معنا.
بدا و كأن دموع نبيل على وشك الفرار من عينيه إلا أنه جاهد ليتمسك برباطة جأشه أمام والد زوجته, و إزدرد لعابه و هو يغمغم:
-لا يمكنني الجلوس إلا بعد أن أطمئن عليها.
و إتجه بنظراته إلى غرفة العمليات, فربت الوالد على كتفه قائلا:
-سنطمئن عليها جميعا بإذن الله.
غالب نبيل دموعه بشدة, و لم يحاول النظر في عيني حميه, هو وحده يعلم أن لينا قد أصيبت إصابات بالغة و نزفت كثيرا, ما إضطر الأطباء إلى نقلها إلى غرفة العمليات على وجه السرعة, مطالبين بأربع زجاجات دم مركز لتنقل إليها, تبرع نبيل بإثنتين منهما, و إستنفر قسم الحوادث كبير الجراحين لما علموا أن المصابة هي الدكتورة لينا.
أغلق عينيه بشدة, و هو يدعو الله ألا يحرمه من زوجته الحبيبة. و ظل مطرقا برأسه إلى أن فتح باب غرفة العمليات ليخرج منها كبير الجراحين.. أسرع الجميع إليه, فنظر إليهم ثم قال:
-إنها بخير..
بدت الفرحة على وجوههم إلا أنه إستطرد قائلا:
-و لكن..
عاد القلق يرتسم على ملامحهم, و في غمرة إنفعاله أمسك نبيل بذراع الطبيب:
-لا تذهب بما تبقى من أعصابنا يا دكتور, أخبرنا بكل شيء.
تطلع إليهم الطبيب بأسف قبل أن يرد:
-كانت ساقها اليسرى ممزقة بصورة فظيعة مما إضطرنا إلى بترها.
صرخت حنان من هول الصدمة فأسرع زوجها يضمها إليه و دموعه على وجهه, بينما أسند نبيل جسده على الجدار و أخفى وجهه بين يديه..
-متى يمكنني أن أراها؟
سأل نبيل بلهفة, فرد عليه الطبيب بإشفاق:
-ستخرج بعد لحظات إلى غرفة الإنعاش, و لكنها لن تفيق تماما إلا بعد ساعات.
-أريد أن أكون بجوارها.
-لك ذلك.
و ما لبث الممرضين أن خرجوا و هم يدفعون لينا التي بدت في غيبوبتها شديدة الشحوب, و أسرع الموكب إلى غرفة الإنعاش..ثم خرج الممرضون تاركين معها عائلتها...
-نبيل...
غمغمت لينا بإسمه في وسط غيبوبتها, إرتجف قلبه بين ضلوعه و إنهمرت دموع الأم أكثر, و أسرع نبيل يضم كفها الرقيقة بين راحتيه و يهمس في أذنها:
-أنا هنا يا حبيبتي.
-نبيل.
عادت تغمغم مرة أخرى, فإنتبه إلى أنها لم تستيقظ بعد, فجذب كرسيا و جلس عليه و هو ما يزال محتضنا كفها.
ثم إلتفت إلى والديها قائلا:
-يمكنكما الذهاب الآن لتستريحا, و سأخبركما متى إستيقظت.
أومأ والدها برأسه و هو يقود زوجته إلى الخارج..
* * *
إستمرت حنان تبكي بحرارة, فضمها زوجها إليه قائلا:
-يكفي هذا يا حنان, إنها بخير.
قالت بإستنكار:
-إنها ليست بخير يا عثمان..
و إنهمرت دموعها أكثر و هي تردف:
-لقد فقدت إحدى ساقيها.
-كان يمكن أن تفقد حياتها, فأحمدي الله على ذلك.
قال بحزم, فتوقفت دموعها و كأن تلك الحقيقة غابت عن ذهنها, و قالت:
-الحمد لله.
و صمتت قليلا قبل أن تكمل:
-ترى, كيف سيكون وقع الخبر عليها؟
-إبنتنا مؤمنة و قوية, و لا تنسي أن نبيل معها.
و إستغرقا في الصمت و ...
-عفوا.
تطلعا إلى مصدر الصوت فرأيا ضابط شرطة شاب برتبة مقدم أمامهما.. تساءل الوالد:
-مرحبا يا ولدي.
تنحنح الضابط و قال:
-لقد أتيت للتحقيق في الحادث الذي أصاب الدكتورة لينا, حمدا لله على سلامتها.
و صمت قبل أن يكمل:
-لم يكن المعتدي ذو حظ طيب, إصطدمت سيارته بسيارة أخرى و توفي هو و قائد السيارة الثانية.
و صمت ثانية ثم قال:
-كان هناك أمرا من المحكمة بعدم إقترابه من إبنتكما.
إتسعت عينا الوالدين من الصدمة و صاحت حنان:
-هل كان قائد السيارة هو فارس؟
-نعم.
أجاب الضابط, فقال عثمان:
-و هل تظن أن الحادث كان متعمدا؟
-من أقوال الشهود و المعاينة لموقع الحادث, يؤسفني أن أقول إنه كان متعمدا.
-الحقير..
صاحت حنان, ثم نهضت مكملة:
-لو لم يكن ميتا لقتلته مائة مرة على فعلته.
-حنان!
قال زوجها مستنكرا و هو يجذبها لتعاود الجلوس.
-أتفهم موقفك يا سيدتي.
قال الضابط, ثم أردف:
-أين أجد زوج الدكتورة لينا؟
* * *
بدا نبيل متعجلا و هو ينظر بين الفينة و الأخرى لباب غرفة الإنعاش التي تستلقي داخلها زوجته..و ما أن إنتهى الضابط من أخذ أقواله, حتى عاد ليجد لينا و قد بدأت تفتح عينيها..
-نبيل.
قالت بصوت ضعيف, فإنحنى نحوها و هو يحتضن يدها اليمنى بين راحتيه:
-حمدا لله على سلامتك يا حبيبتي.
-ماذا حدث؟
تساءلت بحيرة, فصمت قليلا قبل أن يجيبها:
-ماذا تذكرين أنت؟
أغلقت عينيها تحاول التفكير ثم ردت:
-آخر ما أذكره أنك أنزلتني أمام مستشفى الأورام.
-فقط؟
شردت ببصرها بعيدا قبل أن تجيب:
-سمعت صراخا و لما إلتفت...
توقفت عن الكلام و نظرت إليه ثم عادت تكمل:
-وجدت سيارة تتجه نحوي, و لم أستطع الإبتعاد في الوقت المناسب.
-حبيبتي...
قال نبيل بصوت دافيء, لا يدري كيف يخبرها بالنبأ..
-أخبرني يا نبيل بكل شيء, هل كنت في غرفة العمليات؟
-نعم.
-و هل كانت جراحي بالغة؟
-نعم.
أرادت أن تنهض إلا أنه أعادها لوضعها الأول:
-نبيل, إما أن تخبرني, و إما أن تنادي لي الطبيب.
قالت بحدة, فإبتلع ريقه ثم أجاب:
-لقد...
قال مترددا ثم بدا و كأنه إستجمع شجاعته مكملا:
-كانت ساقك اليسرى في حال سيئة جدا..
-و بتروها.
قاطعته لينا بصوت يمزق نياط القلب..
-الحمد لله على كل حال.
قالها ثم أردف:
-كان يمكن أن تموتي في الحادث كما حدث لقائد السيارة.
-هل مات؟
قالت و الحزن يملأ صوتها, فأجاب:
-يستحق ذلك.
رمقته بنظرة عتاب:
-نبيل!
-لقد كان سائق السيارة فارس.
بدت الصدمة عليها و لم تنبس ببنت شفة..
-يبدو أنه لم يستطع السيطرة على سيارته فإصطدم بسيارة أخرى و توفي مع قائد السياة في الحال, و
-هذا يكفي.
قاطعته لينا, فوجدها و الدموع تغرق وجهها...ضم وجهها إلى صدره متسائلا:
-هل تشعرين بالألم؟
-ليس في ساقي.
-أين؟
تطلعت إليه بنظرة طويلة قبل أن تجيب:
-لقد تشوهت يا نبيل, كيف يمكنني أن ...
-لا تقولي ذلك..
قاطعها بصوت حنون:
-يمكنك أن تضعي ساقا صناعية و تزاولي حياتك كما كنت.
-لن أكون كما كنت..
قالت بألم و نظرت إليه مكملة بخفوت:
-بالنسبة إليك.
وضع إصبعه على شفتيها و قبل عينيها الدامعتين و هو يقول بتأكيد:
-أنت لينا حبيبتي و زوجتي مهما حدث..
و إنهمرت دموعها أكثر فشدد إحتضانه لها...
* * *
مرت أربعة أشهر على الحادث, و كان نبيل قد إشترى بيتا به حديقة واسعة بعيدا عن وسط المدينة, و أقنع والدي زوجته بالإنتقال للإقامة معهما, و عادت لينا إلى عملها بالمستشفى...
جلس نبيل في الحديقة ذلك اليوم يتأمل غروب الشمس, و لم يشعر إلا و لينا تهمس في أذنه بمرح:
-يبدو أنني سأغار من هذا المنظر.
إلتفت إليها بحب و أمسك بيدها يقودها لتجلس إلى جواره, كانت قد إعتادت على الساق الإصطناعية إلا أنها مازالت تحمل معها عصا لتساعدها على المشي.
-لست أظن أنني شكرتك كما ينبغي يا نبيل:
قال متحيرا:
-على أي شئ تشكرينني؟
إقتربت منه:
-على وقوفك بجانبي في كل خطواتي, على شرائك هذا البيت الجميل, و على إقناعك والديّ بالإقامة معنا.
ضمها إليه و قال:
-ألست زوجتي الحبيبة, و صدقيني لقد أصبحت مستاءا من السكن في المدينة, و كنت أعلم أنك تحلمين ببيت واسع و حديقة, و خاصة بعد الحادث, لم أكن لأسمح لنفسي برؤيتك تعبة من صعود السلالم لتبلغي شقتنا.
و صمت قم أردف:
-و لا تنسي أنهما كوالدي.
إستكانت بين ذراعيه و قالت:
-أعلم ذلك يا نبيل و أنا متأكدة من أنهما ينظران لك كإبن لم ينجباه.
-أأكون شقيقك إذن؟
قال بمرح فضحكت و هي تضربه برقة على كتفه:
-إلا هذا..
في هذه اللحظة جاء رامي و هو يقود دراجته الصغيرة و إتجه نحوهما هاتفا:
-لقد أصبحت كبيرا, فأنا لم أسقط عنها..
ضحك والداه بمرح, و لما إبتعد إلتفت نبيل إلى زوجته قائلا بلهجة جادة:
-ألا تظنين أن رامي سيفرح أكثر إذا كان لديه إخوة؟
-نبيل!
ردت بدهشة متعجبة:
-كيف سأتمكن من..
و لم تستطع إكمال عبارتها, فضغط نبيل على يدها و قال:
-ستتمكنين من ذلك بإذن الله.
ترقرقت عيناها بالدموع فضمها نبيل ثانية و قال:
-هل تعدينني بالتوقف عن تناول حبوب منع الحمل؟
أومأت برأسها إيجابا ثم وقفت متجهة إلى داخل البيت.
* * *
جلست لينا في حديقة بيتها تتطلع إلى إبنتيها التوأمتين لنا و رنا اللتين أكملتا اليوم عامهما الرابع, كانتا تلعبان الغميضة بينما كان رامي الذي أكمل عامه الثاني عشر يدور حولهما بدراجته..و إبتسمت و الحنان يغمرها نحو أطفالها..
و من بعيد, وقف نبيل و هو يتطلع إليهم بحب.. لقد ناضلت زوجته حقا في حملها الأخير, خاصة لأنه كان حملا بتوأم, و لم تترك عملها بالمستشفى حتى آخر لحظة, على الرغم من أنه إستجداها كثيرا لتفعل ذلك...
و قد تخلت عن العمل بالعيادة في المساء منذ تأكدت من حملها, و قبل أسبوع, رفضت زوجته منصب نائب مدير المستشفى متعللة بإلتزاماتها المنزلية الكثيرة و حتى تتمكن من قضاء أطول وقت ممكن مع عائلتها..
و إتسعت إبتسامته و هو يتجه لينضم إليها..و هو يقول في نفسه:
-إنها حقا شمعة لا تنطفئ..إحفظها يا رب.
* * *
الأربعاء 15 يوليو 2015, 11:21 pm من طرف MOHAMMED ABD ELFATAH
» Diseases and Disorders in Infancy and Early Childhood
الإثنين 15 يونيو 2015, 9:34 pm من طرف MOHAMMED ABD ELFATAH
» كيفية التسجيل والإستعداد لامتحان ال Mccee الكندي
الأربعاء 06 مايو 2015, 2:06 pm من طرف عبدالحليم ابداح
» MRCP 2 Practice Papers
الجمعة 31 أكتوبر 2014, 6:08 pm من طرف Dr .ibrahim
» إمتحانات السنوات السابقة لل MRCP part 1
الأحد 03 أغسطس 2014, 10:44 pm من طرف الحاج منصور
» oxford handbooks Series
الإثنين 02 يونيو 2014, 12:25 pm من طرف ًWIFAG
» ادق برنامج عيادات لادارة عيادتك الخاصة
الإثنين 05 مايو 2014, 11:15 am من طرف petra2
» لعلاج السحر والمس والعين
الأربعاء 29 يناير 2014, 3:09 pm من طرف الطبيب الروحاني
» للحصول على ( الزمالة البريطانية لطب الاطفال MRCPCH ) بكل سهولة من CONNECT CENTER
الخميس 23 يناير 2014, 7:34 pm من طرف connect center
» الأن ولفترة محدووودة ( كورس زمالة الباطنة MRCP ) بارخص الاسعاااار من connect center
الخميس 23 يناير 2014, 6:08 pm من طرف connect center