Soul & Mind Group

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

عندما كان الطبيب روحا وعقلا وكانت علاقة الطبيب بالمريض كعلاقة الروح بالعقل كانت منتديات الروح والعقل


2 مشترك

    و أتى الربيع...

    Dr: Milani
    Dr: Milani
    مشرفة روائع الروح والعقل
    مشرفة  روائع الروح والعقل


    انثى
    عدد المشاركات : 225
    رقم العضوية : 106
    المستوى : Specialist
    الاقامة : Khartoum
    نقاط النشاط : 16778
    السٌّمعَة : 0
    تاريخ التسجيل : 30/05/2009

    متميز و أتى الربيع... (قصة جديدة)...

    مُساهمة من طرف Dr: Milani الإثنين 27 سبتمبر 2010, 2:43 pm

    الفصل الأول:


    كان الفصل شتاء و رياح نوفمبر تعصف بالأشجار المتراصة على جانبي الطريق المؤدية من القرية النائمة على شاطئ النهر إلى المدينة. في تلك اللحظة خرجت "جميلة" من بيت والديها, أو بالأحرى كان بيتهما, فقد لقيا حتفهما في حادث سير مروع منذ شهر, و إستولى "مختار" أغني أغنياء القرية على المنزل لما لم تستطع "جميلة" بمدخراتها القليلة الوفاء بدين والدها له.
    إلتفتت خلفها ملقية نظرة وداع أخيرة علي الذي كان مأواها طيلة سني عمرها الخمسة و العشرين. دموع كالحمم تدفقت على وجنتيها النحيلتين, و شعرت بمذاقها المر في حلقها, فلوحت بيد مرتجفة و هي تقول:
    -أعدك أنني سأعود مرة أخرى يا بيتي الحبيب.
    و أشاحت بوجهها بعيدا, ثم أحكمت ربط الشال الصوفي الذي حاكته جدتها حول رأسها و كتفيها و هي تسير بخطى متعثرة من جراء شدة الرياح.
    -سأسير مرفوعة الرأس و لن أدع أحدا من سكان هذه القرية الظالمة يراني منحنية, ألم تكف شماتتهم لمصيبتي!
    قالت في نفسها و هي تستعيد اللقاء الأخير الذي جمعها بالمرأة التي تسكن جوارها, يومذاك قالت "سكينة" متصنعة الشفقة:
    -ألا ترين يا إبنتي أن "مختار" يريد أن يتزوج منك؟ إنك "جميلة" الجميلة, و سيدع لك منزلك و يجعلك سيدة نسائه.
    إستشاطت "جميلة" غضبا و هي ترد"
    -ماذا تقولين يا خالة؟ كيف أتزوج رجلا يكبر والدي سنا؟ و هو رجل مزواج أيضا كما يعلم الجميع, ثم هل هذا هو الزواج في نظرك؟ إنه صفقة ككل صفقاته.
    -أنت جاحدة للنعمة يا "جميلة".
    -أنا؟
    -نعم أنت. كما كان والداك و هما يرفضان طلب "مختار", ألا تظنين أنهما السبب فيما أنت فيه الآن؟ فلو كانت لديهما ذرة من العقل لوافقا على زواجك منه حتى يفك دينكما و لا تضطرين لترك منزلك.
    رفعت "جميلة" رأسها بأنفة و قالت:
    -بل كان والداي مكتملي العقل و هما يرفضان طلبه, و سأظل شاكرة لهما أنهما علماني كيف تكون النفس الأبية.
    إبتسمت المرأة بشماتة و هي ترد:
    -فلننظر كيف تحلين مشكلتك, و من كانا يحميانك تحت التراب.
    إنتفضت "جميلة" من الغضب و صرخت:
    -أخرجي من بيتي.
    ضحكت "سكينة" و هي ترد:
    -سأخرج و لكن تذكري أنه لن يكون بيتك بعد الآن.
    ثم مالت على أذن "جميلة" مردفة:
    -بل سيكون بيت إبنتي, بعد أن أزوجها ل"مختار".
    و خرجت تتبعها ضحكتها المجلجلة, بينما صفقت "جميلة" الباب وراءها و إنهارت باكية.
    نفضت "جميلة" رأسها محاولة منع الدموع من الإنهمار ثانية, و إبتسمت بأسى لما تذكرت الحوار الذي دار بينها و بين "مختار" يوم أمس في متجره:
    -يا ولد, أحضر كأسا من الشراب الحلو لجميلتي.
    هتف مناديا الصبى الذي يعمل لديه و هو يتطلع إلى "جميلة" بنظرات شرهة, فقالت:
    -لم آت لأشرب العصير يا سيد "مختار".
    -سيد "مختار"؟ لا داعي لكلمة سيد هذه فسنصبح أهلا بعد مدة قصيرة.
    و إقترب منها فابتعدت عنه و هي تقول بصوت بارد:
    -ماذا تعني؟
    ضحك و هو يفرك يديه و أجاب:
    -ستصبحين زوجتي.
    نظرت إليه هازئة:
    -في أحلامك.
    بدت علامات الغضب ظاهرة عليه و هو يقول:
    -كيف تجرؤين؟ إذا لم تتزوجي بي فسأخرجك من بيتك بالقوة.
    -لن أتزوج بك, و سأخرج من بيتي مرفوعة الرأس.
    -و إلى أين تذهبين و لم يعد لك في دنيا الأحياء قريب؟
    إبتلعت مرارتها و هي تجيب:
    -أتظن أن الناس كلهم مثلك و مثل أهل قريتنا؟ ثم إنني أمتلك شهادة السكرتاريا و سيساعدني الله.
    نظر إليها بحقد و قال:
    -إذهبي, و لكن ثقي أنك ستعودين راكعة على قدميك تترجين الزواج مني.
    ردت بصرامة:
    -هذا ما لن يكون, الموت أهون من العيش مع نذل مثلك.
    و صمتت قبل أن تردف:
    -و ثق في أنني يوما سآتي لأسترجع بيتي.
    ثم خرجت بعد أن جعلت عبارتها فرائصه ترتعد.


    عدل سابقا من قبل Dr: Milani في الجمعة 01 أكتوبر 2010, 1:48 pm عدل 1 مرات
    Dr: Milani
    Dr: Milani
    مشرفة روائع الروح والعقل
    مشرفة  روائع الروح والعقل


    انثى
    عدد المشاركات : 225
    رقم العضوية : 106
    المستوى : Specialist
    الاقامة : Khartoum
    نقاط النشاط : 16778
    السٌّمعَة : 0
    تاريخ التسجيل : 30/05/2009

    متميز رد: و أتى الربيع...

    مُساهمة من طرف Dr: Milani الجمعة 01 أكتوبر 2010, 1:47 pm

    جلست "جميلة" تحت ظل شجرة وارفة بعدما أنهكتها طول المسافة التي قطعتها سيرا, فالطريق إلى المدينة لا تمر به المواصلات العامة, كما أنها لا تريد أن تستأجر سيارة حتى لا تقضي على ما تبقى من نقودها القليلة أصلا.
    كانت العاصفة قد هدأت إلا أن الجو كان باردا جدا.. ضمت ذراعيها على جسدها النحيل الذي لم يدفئه ما إرتدت من ملابس. لم تحمل معها من منزلها إلا حقيبة صغيرة بها عباءتين و صور قديمة لها مع والديها. أما متاع البيت فلم يتركها "مختار" تأخذه بعد أن تعلل أن ثمن المنزل وحده لن يكفي تسديد دينها.
    صعدت ببصرها إلى السماء المكفهرة و دعت الله في صمت أن يساعدها فيما هي مقبلة عليه.
    إتكأت على جذع الشجرة و تذكرت أنه لم يسبق لها السفر إلى المدينة وحدها, إذ لم تكن تقوى على فراق والديها, و حتى شهادة السكرتاريا حصلت عليها بالمراسلة.
    تذكرت عمها "عثمان" الذي ترك بلدتهم منذ زمن بعيد ليقيم في المدينة الكبيرة. كان و والدها على خلاف, لأن والدها و هو أكبرهما لم يوافق على سفر أخيه و ترك الأرض التي طالما أغدقت عليهم بخيرها الوفير.
    إبتسمت بحسرة و هي تتذكر الخسارة الكبيرة التي مني بها والداها في السنة الأخيرة بعدما إجتاحت قريتهم مياه النهر التي لم تبق من المحصول الذي كان قد قرب حصاده شيئا, ليرزح بعد ذلك والدها تحت الديون.
    تساءلت في نفسها بخشية " تري هل يقبل عمي أن أقيم معه؟"... ثم إبتسمت مطمئنة نفسها بأنه لن يغلق الباب في وجه إبنة أخيه بكل تأكيد.
    تناهى إلى سمعها صوت سيارة قادمة من ناحية القرية فغضت بصرها و أرخت الخمار حول وجهها حتى لا يتعرف عليها من كان بالسيارة.
    تنفست الصعداء لما تجاوزتها السيارة, إلا أن قائدها الذي لمحها في المرآة الداخلية عاد إلى الوراء ليقف بالسيارة أمامها قائلا بصوت جاف:
    -أنت, ماذا تفعلين عندك؟
    -هل تظن أن هذا من شأنك؟
    ردت عليه بنفس الصوت الجاف ظانة أنه سيمضي في حال سبيله, إلا أنه ترجل ليقف أمامها قائلا:
    -هل أنت ضائعة؟
    إبتسمت بسخرية و هي تجيب:
    -هل أبدو كفتاة ضائعة؟
    صرخ قائلا:
    -لماذا تردين على كل سؤال بسؤال يا فتاة؟
    -أنا حرة.
    -بداية جيدة.
    رد بتهكم ثم سألها:
    -أأنت في طريقك إلى القرية؟
    غمغمت:
    -بل أنا في طريقي منها.
    -هل أنت من سكانها؟
    تساءل بحيرة و هو يحاول أن يتذكر إن كان قد رآها من قبل, إلا أنها قطعت سيل أفكاره لما ردت بألم:
    -كنت.
    -و أين أهلك؟
    خفضت بصرها مغمغمة بصوت باك:
    -توفي والداي قبل شهر و ليس لدي إخوة.
    تطلع إليها بشفقة آلمتها فرفعت جبينها بكبرياء قائلة:
    -يمكنك أن تمض في طريقك.
    -و أنت؟
    -و ماشأنك بي؟
    عقد حاجبيه بغضب و جذبها من ذراعها قائلا:
    -إسمعي يا فتاة: ربما لم تتعلمي السلوك اللائق, و لكنني لن أترك من كانت مثلك في منتصف الطريق, فإما أن أعود بك إلى القرية و إما أن تذهبي بصحبتي إلى المدينة.
    نظرت إليه بخوف و شك, فصرخ:
    -أفسم أنني لن أمسك بسوء, و لك أن تذهبي بعد ذلك إلى الجحيم.
    -هل أنا من لم يتعلم السلوك اللائق؟
    إبتسمت فإبتسم و رقت ملامحه المتجهمة.. صمتت قليلا ثم قالت:
    -سأذهب معك بشرط ألا تسألني أسئلة شخصية, و أن تنزلني عند بداية المدينة.
    -أعدك.
    و فتح لها باب السيارة فركبت ثم ركب هو و إنطلقا نحو المدينة.
    * * *


    عدل سابقا من قبل Dr: Milani في الإثنين 01 نوفمبر 2010, 12:39 pm عدل 1 مرات
    Dr: Milani
    Dr: Milani
    مشرفة روائع الروح والعقل
    مشرفة  روائع الروح والعقل


    انثى
    عدد المشاركات : 225
    رقم العضوية : 106
    المستوى : Specialist
    الاقامة : Khartoum
    نقاط النشاط : 16778
    السٌّمعَة : 0
    تاريخ التسجيل : 30/05/2009

    متميز رد: و أتى الربيع...

    مُساهمة من طرف Dr: Milani الجمعة 08 أكتوبر 2010, 11:14 am


    الفصل الثاني


    تبعت "جميلة" السيارة بنظرها حتى إختفت, لم يسألها قائد السيارة أي سؤال, بل إنه حتى لم ينبس ببنت شفة. و على الرغم من أنه قد إحترم رغبتها في عدم طرح الاسئلة إلا أنها وجدت ذاك الصمت غريبا.
    تساءلت كثيرا عمن يكون, إلا أن عقلها لم يهتد إلى إجابة. و لما كانت طلبت إليه ألا يسألها أسئلة شخصية, فلذا لم تحاول أن تسأله بدورها.
    تنهدت بصمت ثم إتجهت ناحية الطريق المؤدية إلى بيت عمها... كانت تعرف الطريق جيدا فقد أتت إليه من قبل مع أبيها قبل سنوات, إلا أنهما لم يجدا عمها في المنزل في ذلك الوقت.. أخذت تبتهل أن تجده هذه المرة, إذ لا أحد لها غيره لتتجه إليه.
    بعد نصف ساعة وقفت قبالة باب المنزل. ترددت لحظة قبل أن تقرع الجرس. فتح عمها الباب و نظر إليها بدهشة ثم إبتسم بفرحة قائلا:
    -جميلتي الصغيرة مرحبا بك.
    إمتلأت عيناها بالدموع لدى سماعها عبارة التحبب التي كان كلا من أبيها و عمها يخاطبانها بها منذ صغرها.
    -هل أتيت وحدك؟ أين والداك؟
    لم تتمالك "جميلة" نفسها و ألقت جسدها بين ذراعي عمها باكية, فسألها بجزع:
    -ما الأمر يا إبنتي؟ هل حدث مكروه لا سمح الله؟
    رفعت إليه عينين مليئتين بالعبرات و ردت بصوت متقطع:
    -الحادث.. ماتا.. كلاهما..
    و بصوت متقطع مختنق إندفعت تقص عليه التفاصيل, و كيف أنها أجبرت على التخلي عن بيتها.. و ما أن أكملت سردها حتى إنفجرت تبكي ثانية فضمها عمها إليه و الدموع تترقرق في عينيه.
    -ما الأمر؟
    صوت "فوزية" زوجة عمها طرق سمعها فرفعت رأسها و مسحت الدموع و حاولت أن تبتسم و هي تحيي زوجة عمها:
    -مرحبا عمتي.
    تطلعت إليها "فوزية" بنظرة باردة و تجاهلتها مخاطبة زوجها:
    -ما الأمر يا "عثمان"؟
    رد "عثمان" بحزن:
    -لقد توفي شقيقي و زوجته.
    لم يؤثر النبأ على مشاعر "فوزية" التي عادت تسأل:
    -و ماذا تفعل هذه هنا؟
    إنكمشت "جميلة" على نفسها, بينما صرخ عمها في زوجته:
    -إياك أن تتحدثي هكذا مرة أخرى. ألا يكفيك أنك كنت السبب في إبتعادي عن شقيقي الوحيد, الذي فارق الحياة الآن دون أن يغفر لي إساءتي له و مغادرتي القرية؟
    قاطعته "جميلة:
    -بل سامحك يا عمي.
    أمسك عمها بكتفيها و قال بصوت متلهف:
    -هل أنت متأكدة؟ و من أدراك؟ هل أخبرك بذلك؟
    بدت على وجه "فوزية" نظرة حذر و هي تقول:
    -لم تكن بحاجة إليه يا "عثمان".
    لم يلتفت إليها, و هو ينظر إلى "جميلة" متسائلا, فأجابت:
    -لقد أتيت معه قبل أربعة سنوات, و لكننا لم نجدك, فأخبر أبي عمتي "فوزية" بأنه قد سامحك و يرجو أن يقابلك في أسرع فرصة.
    -ماذا؟
    و إلتفت "عثمان" إلى زوجته بغضب قائلا:
    -هل أتي شقيقي إلى منزلي و لم تخبريني؟
    تلعثمت "فوزية" و هي ترد"
    -لقد نسيت؟
    صرخ في وجهها:
    -نسيت؟
    و مد يده يريد أن يلطمها على خدها. إلا أن "جميلة" سارعت بالوقوف بينهما متوسلة:
    -لا يا عمي, أرجوك, هي لم تقصد ذلك.
    أنزل "عثمان" يده و هو يزفر بغضب قم قال:
    -أغربي عن وجهي الآن يا "فوزية".
    أسرعت الأخيرة لتختفي عن ناظري زوجها الغاضب, بينما أحاط هو "جميلة" بذراعيه مغمغما:
    -مرحبا بك في بيتك يا إبنتي.
    * * *


    ألقت "جميلة" جسدها على الفراش الوثير في الغرفة التي منحها إياها عمها. إبتسمت و هي تقارن بين وضاعة بيتها الذي كان في القرية, و بين فخامة منزل عمها. ثم رفعت كتفيها و هي تهمس لنفسها بأن بيتها هو بيتها مهما كان.
    هبت من رقدتها و فتحت خزانة الملابس لتضع فيها ما حملته من متاع قليل, ثم نظرت في المرآة الكبيرة التي تحتل نصف جدار.. "هل ترى تصلح هذه الفتاة القادمة من القرية في هذه المدينة الكبيرة"؟... تساءلت بحيرة.
    مالت قليلا على المرآة و هي تلمس بشرة وجهها.. "أبدو شاحبة كشبح".. قالت, و تنهدت بأسى, ثم فتحت النافذة المطلة على الحديقة و تنشقت نفسا عميقا, إلا أن عبرتين تسارعتا على وجنتيها لما تذكرت القرية و رائحة المحاصيل و الفواكه الطازجة...
    -لماذا تأخرت عن موعد الغداء؟
    جاءها صوت عمها الحاني من خلفها فأسرعت تلتفت متهللة قائلة:
    -يبدو أنني نسيت نفسي قليلا, لديك منزل رائع يا عمي.
    ثم تنبهت إلى صحفة الطعام التي كان يحملها فأسرعت تأخذها منه قائلة بإرتباك:
    -لم يكن هناك داع لتأتيني بها.
    ربت على كتفيها و هو يرد:
    -لا بأس يا بنيتي, لكم تمنيت أن أرزق فتاة جميلة مثلك, و لكن الله عاقبني على ما إقترفته في حق نفسي و أخي.
    أخذت يده بين كفيها بعطف و هي تهتف:
    -لا تقل ذلك يا عمي.
    ثم إلتفتت إلى الطعام مكملة:
    -و الآن ألأن تشاركني غدائي؟
    ضحك و رد:
    -هنيئا لك.. سبقتك يا "جميلة".
    ثم بدت الجدية على ملامحه و هو يجلس متسائلا:
    -هل تودين الذهاب إلى المدرسة؟
    بدهشة قالت"
    -و لم؟
    -لأن الدراسة و الحصول على الشهادة ضمان للمستقبل يا إبنتي.
    تطلعت إليه بحيرة و ما لبثت أن تفهمت فقالت:
    -لقد حصلت على شهادة الدبلوم في السكرتاريا بالمراسلة من جامعة المدينة قبل أربع سنوات.
    فرحة عمت وجهه و هو يعتف:
    -كم أنا سعيد بهذا النبأ. مبارك لك يا "جميلة".
    ثم بدت على وجهه سيماء الألم و هو يكمل:
    -و لكنها تهنئة متأخرة جدا.
    أسرعت ترد:
    -لا يا عمي. أنا سعيدة بتهنئتك.
    صمتت قليلا قبل أن تردف:
    -أريد عملا.
    -ماذا؟
    إستنكر بشدة.
    -ألم تقل إن الدراسة و الحصول على الشهادة ضمان للمستقبل؟ إن العمل شيء مهم للمستقبل أيضا, لا يختلف في هذا رجل عن إمرأة.
    إبتسم و هو يربت على كتفيها:
    -لكم كبرت يا "جميلتي الصغيرة".
    بادلته إبتسامته و هي تقول:
    -إذن ستساعدني في الحصول على عمل؟
    -بكل تأكيد.
    أجابها بثقة..
    Dr:Sonia
    Dr:Sonia
    المدير العام
    المدير العام


    انثى
    عدد المشاركات : 447
    رقم العضوية : 1
    المستوى : GP
    الاقامة : الخرطوم- السودان
    نقاط النشاط : 17638
    السٌّمعَة : 15
    تاريخ التسجيل : 27/10/2008

    متميز رد: و أتى الربيع...

    مُساهمة من طرف Dr:Sonia الجمعة 08 أكتوبر 2010, 1:20 pm



    فى انتظار بقية الاحداث ......
    Dr: Milani
    Dr: Milani
    مشرفة روائع الروح والعقل
    مشرفة  روائع الروح والعقل


    انثى
    عدد المشاركات : 225
    رقم العضوية : 106
    المستوى : Specialist
    الاقامة : Khartoum
    نقاط النشاط : 16778
    السٌّمعَة : 0
    تاريخ التسجيل : 30/05/2009

    متميز رد: و أتى الربيع...

    مُساهمة من طرف Dr: Milani الإثنين 11 أكتوبر 2010, 7:07 pm

    تسلمي يا سونيا...
    Dr: Milani
    Dr: Milani
    مشرفة روائع الروح والعقل
    مشرفة  روائع الروح والعقل


    انثى
    عدد المشاركات : 225
    رقم العضوية : 106
    المستوى : Specialist
    الاقامة : Khartoum
    نقاط النشاط : 16778
    السٌّمعَة : 0
    تاريخ التسجيل : 30/05/2009

    متميز رد: و أتى الربيع...

    مُساهمة من طرف Dr: Milani الإثنين 11 أكتوبر 2010, 7:08 pm



    الفصل الثالث

    تطلعت "جميلة" إلى مبنى شركة "الفجر" الهندسية برهبة.. إمتلأت نفسها بتوجس شديد, إلا أن ملامحها ظلت هادئة لا تشي بما يعتمل داخلها.
    خاطبها عمها قائلا:
    -لم أنت صامتة هكذا؟
    إغتصبت إبتسامة و ردت:
    -فقط كنت أسائل نفسي إن كانوا سيقبلون بي, مع إنعدام خبرتي.
    ربت على كفها مطمئنا:
    -لا تقلقي, إن مدير الشركة الحاج "إسماعيل" صديقي, و لا أظن أنه سيرفض أن يعينك تحت التدريب مثلا.
    و غمزها ثم أردف:
    -كما أن جمالك سيفتح لك الأبواب يا صغيرتي.
    عقدت "جميلة" حاجبيها بضيق و هي ترد:
    -لا أريد أن يفتح جمالي الأبواب,- مع أنني لست جميلة كما تقول- بل أريد أن تفتحها شهادتي و كفاءتي.
    ربت على كفها مرة أخرى و هو يغمغم:
    -لا تقلقي.
    صمت قليلا قبل أن يردف:
    -هيا بنا ندخل.
    ولجا من خلال أحد الأبواب الزجاجية, فوجدا موظف الإستقبال الذي قابلهما بإبتسامة كبيرة مرحبا بعمها –الذي كان معروفا في الشركة لصداقته لمديرها- و بعد دقائق كانا في المصعد متجهين إلى غرفة مكتب المدير.
    ظلا صامتين حتى بلغا الطابق الثالث, خرجا من المصعد, ثم إنعطفا يمينا. قابلهما الترحيب ذاته من سكرتير المدير, الذي فتح لهما باب غرفة مكتب الأخير ثم إنسحب بهدوء.
    -مرحبا بصديقي العزيز "عثمان", ما هذه الغيبة الطيبة.
    قال الحاج "إسماعيل" مرحبا و هو ينهض من مقعده و يتقدم ليسلم على "عثمان" و "جميلة".
    -مرحبا بك يا حاج "إسماعيل".
    -و من هذه الجميلة؟
    خفضت "جميلة" عينيها حياء, فإبتسم عمها و هو يرد على صديقه:
    -إنها "جميلة" إبنة أخي الراحل عبد العزيز.
    مد الحاج "إسماعيل" يده مسلما على "جميلة", ثم سأل "عثمان":
    -لم أكن أعلم أن شقيقك قد توفي. أحسن الله عزاءكم.
    -بارك الله فيك.
    رد "عثمان" بنبرة حزينة, ثم أردف:
    -أنا نفسي لم أعلم بوفاته إلا بعد إن حضرت "جميلة" من القرية.
    ربت الحاج "إسماعيل" على كتفه ثم قال ل"جميلة":
    -تقبلي عزائي يا إبنتي.
    أومأت "جميلة" برأسها و قد غصت بالعبرات.
    -تفضلا بالجلوس.
    قال الحاج "إسماعيل" و هو يشير إلى الأريكة الوثيرة ليجلسا عليها, ثم ضغط جهاز الهاتف الداخلي طالبا من سكرتيره إرسال مشروب دافئ.
    -كم عمرك يا إبنتي؟
    -أنا في الخامسة و العشرين يا سيدي.
    -لا داعي لهذه الكلمة, نادني عمي كما تخاطبين عمك "عثمان" رجاء.
    قال الحاج "إسماعيل" بطيبة, فنظرت إليه "جميلة" قبل أن تحول نظرها إلى عمها الذي أومأ براسه موافقا.
    -تبدين صغيرة.
    قال الحاج "إسماعيل" مبتسما ثم أردف:
    -هل تدرسين؟
    -لقد حصلت على دبلوم السكرتاريا قبل أربعة أعوام.
    -هذا جيد. و هل سبق أن عملت في وظيفة؟
    -كنت أساعد والدي في الحقل.
    قالت بحزن, فأسرع الحاج "إسماعيل" يقول:
    -هل تحبين أن تعملي هنا؟
    تطلعت إليه بدهشة, بينما ضحك عمها قائلا:
    -لقد جئنا لذات الغرض.
    ضحك الحاج "إسماعيل" ثم قال:
    -قبلنا تعيينك في الشركة.
    -هل لي أن أطلب شيئا؟
    قالت "جميلة" بصوت خافت:
    -كل طلباتك مجابة.
    رد الحاج "إسماعيل", فأسرعت تكمل:
    -أريد ألا أكون مميزة عن الموظفين الآخرين, و أن تتم معاملتي على أساس عملي و جهدي لا قرابتي لعمي الذي هو صديقك.
    نظر إليها الحاج "إسماعيل" بإعجاب, بينما قال "عثمان" بفخر:
    -لقد أحسن أخي تربية إبنته.
    -لك هذا يا إبنتي.
    تنفست "جميلة" بإرتياح, ثم بدا عليها الإرتباك و هي تغمغم:
    -و لكنني لا أجيد التعامل مع الكمبيوتر.
    إبتسم الحاج "إسماعيل" متفهما:
    -لا عليك. سأطلب من أحدهم أن يعلمك.
    -إنني سريعة التعلم.
    قالت بفرحة, فرد الحاج "إسماعيل":
    -لا أشك بذلك.
    عم الصمت لحظات قبل أن يقطعه الحاج "إسماعيل" بقوله:
    -و الآن دعيني أريك الشركة, و أدلك على مكان عملك.
    -لا يا سي..
    قطعت عبارتها لما رأت نظرته المؤنبة, فإبتسمت و أكملت:
    -لا يا عمي.. لقد إتفقنا. يمكنك أن تطلب من أحد الموظفين أن يفعل ذلك.
    -لا بأس.
    و إبتدأت رحلة الكفاح...
    Dr: Milani
    Dr: Milani
    مشرفة روائع الروح والعقل
    مشرفة  روائع الروح والعقل


    انثى
    عدد المشاركات : 225
    رقم العضوية : 106
    المستوى : Specialist
    الاقامة : Khartoum
    نقاط النشاط : 16778
    السٌّمعَة : 0
    تاريخ التسجيل : 30/05/2009

    متميز رد: و أتى الربيع...

    مُساهمة من طرف Dr: Milani الخميس 14 أكتوبر 2010, 7:37 pm

    الفصل الرابع

    بعد مضي أسبوعين فقط, كانت "جميلة" قد تعلمت اساسيات الكمبيوتر, و فاقت كل من يعمل في السكرتاريا في الشركة إجتهادا و نشاطا. كانت تحضر قبل الجميع, و تنصرف بعدهم دائما, ما جعل الحاج "إسماعيل" راضيا عن قراره بتعيينها كل الرضى.
    كانت تعمل في مكتب تشاركها فيه السكرتيرتين "إخلاص" و "آمال", و كلتاهما سبقتها بحوالي العامين.
    -أنت عبقرية يا "جميلة".
    قالت "إخلاص" بإعجاب, فإبتسمت "جميلة" و هي ترد:
    -و كيف ذلك؟
    ردت "إخلاص":
    -لقد تفوقت علينا جميعا و لما يمض على تعيينك إسبوعان, و أظن أن الحاج "إسماعيل" حالما يسمع عنك سيأمر بنقلك للعمل بالقسم الرئيسي.
    و إلتفتت إلى آمال مكملة:
    -أليس كذلك يا "آمال"؟
    ردت "آمال" دون أن ترفع وجهها عن جهاز الكمبيوتر:
    -أشك في ذلك.
    تجهمت "جميلة" و تساءلت "إخلاص":
    -و لم؟
    تنهدت "آمال" و إلتفتت إليهما مجيبة:
    -ألا تعلمين أن الباشمهندس "مجتبى" لن يوافق على سكرتيرة أنثى في القسم الذي يديره.
    -لقد نسيته تماما.
    قالت "إخلاص" بحسرة. و بدت على "جميلة" الدهشة و هي تسمع هذا الحوار, ثم ما لبث أن سألت:
    -من يكون الباشمهندس "مجتبى"؟
    إلتفنن كلتاهما إليها و قالتا بصوت واحد:
    -ألا تعرفين من هو؟
    إزدادت حيرتها, فبادرت "آمال" تجيب:
    -إنه نائب المدير.
    و أكملت "إخلاص":
    -و هو الآن في إجازة.
    -و لم لا يقبل بأنثى كسكرتيرة؟ هل لديه عقدة؟
    تساءلت "جميلة" فضحكت الأخرتين, ثم أجابت "إخلاص":
    -ليست لديه عقدة, و لكنه يظن أن المرأة لا تصلح لمثل هذه الوظائف.
    -و لم لا؟
    -يقول إنها تنسى بكثرة و تهمل في المواعيد, و هو لا يقبل إلا بالكمال.
    مطت "جميلة" شفتيها و هي تقول:
    -أختلف معه في وجهة نظره. و إنني أثق بأن المرأة تستطيع أن تعمل كما الرجل و أن تتفوق عليه أيضا.
    -فلسفة أنيقة.
    صوت رجولي حاد مألوف قطع عليها عبارتها, و قبل أن تستجمع أفكارها, كانت "إخلاص", و "آمال" قد نهضتا من مقعديهما قائلتين:
    -مرحبا يا باشمهندس , حمدا لله على السلامة.
    لم تنهض "جميلة" من مقعدها بعد أن ألجمتها الدهشة لما رأت أن الرجل لم يكن إلا ذاك الذي أقلها بسيارته إلى المدينة قبل ثلاثة أسابيع.
    -ماذا تفعلين هنا؟
    سألها بصوت بارد, فعقدت حاجبيها و هي تقول:
    -و ما شأنك أنت؟
    إبتسم ساخرا:
    -لا تزالين تفعلينها.
    -ماذا؟
    قالت بحدة. وقفا يتطلعان إلى بعضهما. هو بسخرية و تهكم, و هي بضيق, بينما تطلعت "إخلاص" و "آمال" إليهما بدهشة, و لكزت الأولى "جميلة" بمرفقها و هي تقول بصوت هامس:
    -إنتبهي, إنه هو.
    إلتفتت إليها "جميلة" متسائلة:
    -هو من؟
    ثم إلتفتت إلى الرجل الذي كان عاقدا ذراعيه أمام صدره, و على شفتيه تلك الإبتسامة الساخرة التي طالما أزعجتها.
    -ماذا تفعل هنا؟
    سألته بحدة, فأجابها بضحكة ساخرة قبل أن يرد:
    -بل ماذا تفعلين أنت هنا؟
    -هذا ليس من شأنك.
    ردت بنزق, و سارعت "آمال" تقول:
    -إنها جديدة هنا يا باشمهندس "مجتبى".
    و إعتلت الصدمة ملامح "جميلة"...
    * * *
    -إذن فأنت هو.
    قالت "جميلة" بتهكم, فإتسعت إبتسامته الساخرة و هو ينحني بحركة مسرحية مجيبا:
    -نعم, أنا هو.
    تبادلت "إخلاص" و "آمال" نظرة سريعة ثم قالت الأولى:
    -عفوا يا باشمهندس, لدينا عمل طارئ.
    و إنسحبتا بسرعة تاركين "جميلة" و الباشمهندس "مجتبى" يتبادلان النظرات الساخطة.
    جلس "مجتبى" على أقرب مقعد و وضع إحدى قدميه فوق الأخرى, و قال:
    -لم أكن أظن عندما قرأت أوراق السكرتيرة الجديدة أنها أنت.
    و مال بوجهه متطلعا إلى عينيها مباشرة:
    -أخبريني: كيف نجحت في الحصول على عمل لدينا بمثل هذه السرعة, على الرغم من أنه لم تكن هناك وظائف شاغرة على ما أذكر, و أنت لا تملكين خبرة على الإطلاق؟
    فتحت فمها لتجيب إلا أنه لوح بإصبعه مقاطعا:
    -دعيني أجيبك أنا, لقد إستخدمت جمالك لتؤثري على الرجل الطيب الحاج "إسماعيل".
    -لا أسمح لك.
    هتفت و الغضب قد رسم ملامحها, فإتسعت إبتسامته و هو يقول:
    -و من أنت حتى لا تسمحين لي.
    همت بالإجابة إلا أنه نهض مكملا:
    -لا وقت لدي حتى أضيعه بنقاش سخيف معك.
    و إتكأ بمرفقيه على مكتبها قائلا:
    -و لتعلمي أنني سأختبرك جيدا, و لما يتبين لي –كما أظن- عدم أهليتك للوظيفة, سأعمل على أن يوافق الحاج "إسماعيل" على إقالتك من هذه الوظيفة.
    و خرج دون أن ينتظر منها ردا و هو يطلق صفيرا منغوما من بين شفتيه.
    * * *
    Dr:Sonia
    Dr:Sonia
    المدير العام
    المدير العام


    انثى
    عدد المشاركات : 447
    رقم العضوية : 1
    المستوى : GP
    الاقامة : الخرطوم- السودان
    نقاط النشاط : 17638
    السٌّمعَة : 15
    تاريخ التسجيل : 27/10/2008

    متميز رد: و أتى الربيع...

    مُساهمة من طرف Dr:Sonia الأربعاء 20 أكتوبر 2010, 10:37 am


    وماذا حدث بعد ذلك؟؟؟
    Dr: Milani
    Dr: Milani
    مشرفة روائع الروح والعقل
    مشرفة  روائع الروح والعقل


    انثى
    عدد المشاركات : 225
    رقم العضوية : 106
    المستوى : Specialist
    الاقامة : Khartoum
    نقاط النشاط : 16778
    السٌّمعَة : 0
    تاريخ التسجيل : 30/05/2009

    متميز رد: و أتى الربيع...

    مُساهمة من طرف Dr: Milani الخميس 21 أكتوبر 2010, 7:02 pm

    هلا سونيا...
    و بعد ذلك...ما يأتي...
    Dr: Milani
    Dr: Milani
    مشرفة روائع الروح والعقل
    مشرفة  روائع الروح والعقل


    انثى
    عدد المشاركات : 225
    رقم العضوية : 106
    المستوى : Specialist
    الاقامة : Khartoum
    نقاط النشاط : 16778
    السٌّمعَة : 0
    تاريخ التسجيل : 30/05/2009

    متميز رد: و أتى الربيع...

    مُساهمة من طرف Dr: Milani الخميس 21 أكتوبر 2010, 7:04 pm


    الفصل الخامس

    كانت "جميلة" في غرفتها ذلك المساء -بعد عودتها من دوام العمل- تحيك وشاحا من الصوف بصنارتيها كما علمتها جدتها.. كانت تلك هوايتها المفضلة, خصوصا بعد أن أتت إلى منزل عمها, حيث لا تجد ما تفعله في الأمسيات, إذ أن عمها غالبا ما يكون برفقة أصدقائه في النادي القريب, كما أنها آثرت عدم الإقتراب من زوجة عمها لما لمسته من عداء واضح منها.
    فتح باب الغرفة بعنف و دخلت "فوزية", فإستقامت "جميلة" في مجلسها و رسمت إبتسامة مرحبة:
    -عمتي "فوزية" مرحبا بك.
    ردت عليها الأخيرة بغلظة:
    -أترحبين بي في منزلي يا هذه؟
    تلعثمت "جميلة" و قد كساها الإحراج:
    -لم أقصد ذلك يا عمتي.
    جلست "فوزية" على أحد المقاعد بعظمة و واصلت بنفس النبرة:
    -و لست عمتك فلا تنادني هكذا أبدا.
    بان الحذر على "جميلة" و هي تسأل:
    -و بم أناديك؟
    رفعت "فوزية" رأسها بغرور و ردت:
    -قولي يا مدام "فوزية".
    -كما تحبين يا عمتي.
    نظرة آمرة من "فوزية" أخرست "جميلة":
    -ماذا قلت؟
    إنتهرتها "فوزية", فإعتذرت "جميلة":
    -آسفة, يا مدام "فوزية".
    نظرة رضا ممتزجة بخيلاء إرتسمت على ملامح "فوزية", التي نهضت من مجلسها متجهة إلى باب الغرفة. و ما لبثت أن إستدارت قائلة:
    -شيء آخر, لا تظني أن إقامتك هنا ستكون دون مقابل يا صغيرة. إن عمك لا يكسب كثيرا هذه الأيام من تجارته, و عليك أن تدفعي لي بأجرك.
    -و لكنني لم أستلم أجرا بعد يا مدام.
    قالت "جميلة" بإنكسار, فردت "فوزية" دون شفقة و هي تشير إلى الوشاح:
    -ستكملين حياكة هذا الوشاح و تعطينني إياه, و من ثم, عندما تستلمين أجرك, تأتيني به.
    -سمعا و طاعة, يا مدام.
    و خرجت "فوزية" من الغرفة تاركة "جميلة" و دموع القهر تغرق وجهها.
    * * *
    ألقت "جميلة" تحية الصباح على موظف الإستقبال في الشركة بإبتسامة كعادتها, و إتجهت مسرعة تصعد درجات السلم. كان ذلك أول يوم تصل فيه الشركة متأخرة عن موعدها. و لما كانت تكره التأخير, فإن الدقائق الخمس التي تأخرتها بدت و كأنها نهاية العالم بالنسبة لها.
    دعت في نفسها ألا يكون أحد رؤسائها قد حضر مبكرا –على غير العادة-, و لما بلغت مكتبها و هي تلهث بشدة, تلفتت حولها, و تنفست الصعداء لما لم تجد أحدا.
    -خمس دقائق و أربعون ثانية تأخير.
    أطلقت صرخة صغيرة و بان الفزع عليها, و لكنها لما رأت أن قائل العبارة لم يكن إلا الباشمهندس "مجتبى", رسمت البرود على ملامحها و هي تجيب:
    -صباح الخير يا باشمهندس. معذرة لم أكن أدر أنك هنا.
    بسخرية أجاب:
    -هل تتأخرين هكذا عن موعدك؟
    -إنه اليوم الأول و سيكون الأخير.
    -لا أظن. و لكن نسبة إلى أن الآخرين كعادتهم لم يحضروا في موعدهم, فلا أحد يمكنه أن يجزم بأنه أول يوم تتأخرين فيه عن موعد العمل.
    أرادت أن تطلب منه أن يسأل موظف الإستقبال, فهو الوحيد الذي يصل قبلها إلا أنها آثرت الصمت, فأكمل:
    -يبدو ألا شي لديك لتضيفيه.
    نظر إليها منتظرا أي تعقيب إلا أنها صمتت تماما.
    -حسنا, هذه الأوراق –و أشار إلى كومة منها مكدسة على درج مكتبها- بحاجة إلى طباعة.
    قال بنبرة إستفزازية, و لما رأت "جميلة" كمية الأوراق بدت عليها الدهشة إلا أنها قالت:
    -لا بأس.
    إبتسم بسخرية وقائلا:
    -و قبل عصر هذا اليوم.
    -و لكن..
    لوح بإصبعه أمام وجهها بتهكم:
    -لا أعذار. أنسيت أنني قلت أنني سأختبرك. يمكنك إعتبار هذا العمل الإختبار الأول.
    أرادت أن تصرخ فيه و تخبره أنها لن تقوم بما أمرها به, و لكنها تذكرت حديث "فوزية" بالأمس فبان الإستسلام على وجهها و هي تجيب:
    -كما تأمر يا باشمهندس.
    -ينبغي أن تقولي كذلك.
    رد بسخرية أكبر, و خرج تاركا إياها بين أوراقه.
    جلست بسرعة, و هي تردد في نفسها (إصبري يا "جميلة", لا تستجيبي للإستفزاز و أعملي بجد كما تعودت).. ثم بدأت تفرز الأوراق واضعة كل مجموعة على حدة, ثمان و خمسون ورقة كاملة.. لدى أربع ساعات و نصف فقط... شعرت باليأس إلا أن الإصرار على النجاح طغى عليها, فأخذت نفسا عميقا و بدأت في الطباعة.
    -ما كل هذا؟
    جاءها صوت "آمال" المندهش, فردت دون أن ترفع وجهها:
    -لقد طلب مني الباشمهندس "مجتبى" أن أطبع هذه الأوراق.
    -هل أتى الباشمهندس إلى المكتب هذا الصباح؟
    تساءلت "آمال" بخوف فطمأنتها "جميلة":
    -لا يصيبنك الذعر يا "آمال" فهو لم يكن يهتم إلا بساعة وصولي أنا.
    جلست "آمال" بقربها بعد أن هدأت قليلا ثم قالت:
    -فهل طلب منك أن توزعي العمل بيننا نحن الثلاثة؟
    -لا.
    -و كيف ستقومين بطباعة كل هذا وحدك؟
    -سأقوم بطباعته و قبل عصر اليوم, لذا أرجوك دعيني أركز فيما أقوم به, و إلا لن تجديني منذ صبيحة الغد هنا.
    قالت "جميلة" بضجر, فصمتت "آمال" و هي تومئ برأسها متفهمة.
    * * *
    نظر "مجتبى" إلى الساعة الكبيرة التي تعتلي جدار مكتبه, و إبتسم لما وجدها بلغت الثانية ظهرا. نهض من مقعده يريد الذهاب إلى مكتب السكرتيرات ليلقي بضع كلمات على آذان "جميلة" تلك الفتاة التي تتملق للوصول إلى ما تبغيه.
    إنزعاج بسيط شعر به عندما تذكر أنه سيطلب من الحاج "إسماعيل" طردها لعدم جدارتها بالوظيفة.. لم يفهم ماهية شعوره, فأبعده عن تفكيره و نهض من مقعده.
    طرقات هادئة على الباب جعلته يعود للجلوس من جديد و هو يقول:
    -تفضل يا من تطرق الباب.
    دخلت "جميلة" و لما تبين له أنها هي, عاد بمقعده إلى الوراء واضعا إحدى قدميه فوق الأخرى و هو يقول:
    -هل أتيت لتعتذري عن عدم تمكنك من طباعة الأوراق؟
    قالت "جميلة" بهدوء و ثقة:
    -بل أتيت بها مطبوعة يا باشمهندس.
    و وضعت ما كانت تحمله بيدها أمامه, فنظر إليها بدهشة, و بدأ يتصفح الأوراق بعناية.
    إعجاب متزايد غمره و هو يرى أنها لم تخطئ في طباعة أية كلمة, بل إنها قامت بفرز الأوراق حسب الموضوع و الأهمية. بطرف عينيه لمحها تفرك يديها فعلم ما تعانيه من إضطراب على الرغم من تظاهرها بالهدوء, فأراد أن يزيد من إضطرابها لسبب لا يدريه.
    بعد نصف ساعة قضتها "جميلة" واقفة أمامه, بدا الخوف يتسلل إليها.. (ترى, هل وجد خطأ فيما قمت به؟ و إلا لم إستغرق كل هذا الوقت؟).. رفعت نظرها إليه و شهقت لما وجدت أنه كان يحملق فيها بسخرية.
    -لا بأس.
    قال في النهاية, فأضاءت عينيها إبتسامة أثارت إعجابه إلا أنه أخفى إحساسه و هو يكمل:
    -ستجدين في الغد أوراقا أخرى, أرجو أن تطبعيها.
    (هل قال أرجو؟) تساءلت في نفسها بفرحة و هي تخرج من مكتبه بعد أن أحست بالإنتصار في المهمة الأولى.
    * * *
    Dr: Milani
    Dr: Milani
    مشرفة روائع الروح والعقل
    مشرفة  روائع الروح والعقل


    انثى
    عدد المشاركات : 225
    رقم العضوية : 106
    المستوى : Specialist
    الاقامة : Khartoum
    نقاط النشاط : 16778
    السٌّمعَة : 0
    تاريخ التسجيل : 30/05/2009

    متميز رد: و أتى الربيع...

    مُساهمة من طرف Dr: Milani السبت 23 أكتوبر 2010, 1:32 pm

    الفصل السادس</span>

    <span> </span>

    دخلت "جميلة" المنزل عائدة من العمل. مبتسمة لنجاحها لليوم الرابع على التوالى في القيام بما يطلبه الباشمهندس "مجتبى".. و على الرغم من أنه لم يوجه إليها و لا كلمة شكر واحدة, إلا أن تغير لهجته في مخاطبتها كانت تبث في نفسها بعض الإطمئنان في أنها لن تطرد من وظيفتها.

    -"جميلة" أراك اليوم مشرقة على غير العادة.

    قال عمها و هو يرحب بها بإبتسامة حانية, فضحكت و هي تجيب:

    -أتظن ذلك؟

    غمزها بعينه قائلا:

    -ترى هل طرق الحب بابك أخيرا؟

    رفعت حاجبيها بدهشة و هي تجيب:

    -أنا؟

    ثم عقصتهما مكملة:

    -هذا ما لن يحدث أبدا.

    تعجب العم:

    -و لم يا إبنتي؟

    تنهدت بحزن و هي تقول:

    -لقد عاهدت نفسي ألا أفكر بشيء حتى أستعيد بيتي.

    -و لكن يا إبنتي, العمر يمضي و أنت لا تدرين متى تستعيدين بيتك.

    بإصرار أجابت:

    -لا يا عمي. سأستعيده قريبا بإذن الله.

    -"جميلة".

    صوت "فوزية" المتزلف طرق أذنيها فإلتفتت إليها قائلة بحذر:

    -مرحبا.

    -مرحبا بك يا بنيتي.

    دهشة غمرت "جميلة" لتبدل لهجة "فوزية" في مخاطبتها إلا إنها لم تبد ذلك.

    -رأيت أنك أكملت الوشاح الصوفي.

    (آه, هكذا إذن).. قالت "جميلة" في نفسها, ثم غمغمت:

    -أجل, أكملته البارحة.

    -ألم تقولي أنك ستعطينني إياه؟

    قالت "فوزية" و هي ترمق "جميلة" بنظرة تحذير لم يلاحظها العم الطيب.

    -إنه لك بكل تأكيد.

    قالت "جميلة" بإستسلام حاولت أن تخفيه بقدر الإمكان.

    -هل ستشترينه منها يا "فوزية"؟

    تساءل العم, فأسرعت "جميلة" تجيب:

    -لقد أهديته لها يا عمي.

    -يا لك من إبنة حنونة.

    قال العم و هو يطبع قبلة على رأس "جميلة" التى غصت بريقها و لم تجب.

    -إنني ذاهبة هذا المساء إلى إجتماع الرابطة النسائية.

    قالت "فوزية" و أكملت بنبرة متفاخرة تحاول إغاظة "جميلة":

    -و ستكون هناك نساء الطبقة المخملية كلهن.

    -و هل تظنين أنك منهن؟

    سخر "عثمان" من زوجته, فأسرعت تدافع عن نفسها بتزلف:

    -كيف لا أكون منهن و أنا زوجة أكبر تاجر في المدينة.

    -لا بأس إذهبي.

    بضجر قال "عثمان" منهيا الحوار و هو يخرج من غرفة المعيشة, و ما أن خرج حتى إقتربت "فوزية" من "جميلة" هامسة بصوت كالفحيح:

    -إياك أن تجرؤي على إخبار عمك بما دار بيننا قبل أيام.

    -لست بواشية يا مدام.

    ردت "جميلة" بإستنكار و أسرعت تتجه إلى غرفتها.

    * * *



    في صباح اليوم التالي و بينما كانت "جميلة" في مكتب السكرتيرات تقوم بعملها إذا بصوت متسائل:

    -مرحبا. هل أجد "جميلة" هنا؟

    إلتفتت إلى مصدر الصوت لتجد إمرأة في الخمسينيات من العمر تبدو الطيبة على ملامحها المبتسمة.

    -مدام نادية", مرحبا بك في شركتك.

    قالت "إخلاص" و هي تنهض مع "آمال" مرحبتين بالمرأة, ثم إلتفتت الأخيرة إلى "جميلة" تعرفها بالمرأة:

    -"جميلة", هذه مدام "نادية" زوجة الحاج "إسماعيل".

    نهضت "جميلة" من مقعدها بإبتسامة كبيرة و مدت يدها تسلم و هي تقول:

    -تشرفت بمعرفتك يا مدام.

    نظرت إليها "نادية" بعطف و هي تقول:

    -هل يمكنني أن آخذ من وقتك لحظات؟

    -بكل تأكيد.

    ردت "جميلة" ثم أعلقت جهاز الكمبيوتر خاصتها و خرجت مع "نادية".

    -إنني شديدة الأسف لمصابك يا إبنتي.

    قالت "نادية" بحنو, فردت "جميلة" و هي مطرقة برأسها:

    -أشكرك يا سيدتي.

    ربتت "نادية" على كتفها و هي تقول:

    -ألم يطلب إليك الحاج "إسماعيل" ألا تناديه سيدي؟

    أومأت "جميلة" برأسها فأكملت "نادية":

    -إذن أنا أرجوك إلا تنادني هكذا. يمكنك أن تنادني خالتي أو عمتي.

    ثم إلتفتت تواجهها مردفة:

    -بل إنني أحب لو ناديتني أمي, فأنا لم أرزق بذرية, و يعلم الله كم أحببتك منذ سمعت الحاج يتحدث عنك.

    تطلع "جميلة" إليها و دمعتان تترقرقان على خديها تأثرا بطيبة المرأة. مسحت "نادية" دموع "جميلة" بيدها و هي تقول بإبتسامة:

    -دعينا ندخل هذه الغرفة لأحدثك بما جئتك لأجله.

    دخلتا غرفة قريبة من مكتب الحاج "إسماعيل", و أغلقت "نادية" الباب خلفهما و هي تدعو "جميلة" للجلوس قائلة:

    -لقد قابلت "فوزية" زوجة عمك بالأمس في إجتماع رابطة المرأة.

    و صمتت قبل أن تردف:

    -و أعجبني جدا الوشاح الصوفي الذي كانت تضعه على كتفيها, فلما سألتها من أين أتت به أجابت أن واحدة من قريبات زوجها تقيم معها هذه الأيام قد صنعته لأجلها.

    إبتسمت "جميلة" و هي تقول في نفسها (صنعته لأجلها!! يا لك من إمرأة يا زوجة عمي).

    -فهل أنت من صنعه؟

    تساءلت "نادية" بلهفة:

    -أجل يا عمتي.

    -يا لك من فتاة موهوبة.

    قالت "نادية" بإعجاب و طفقت تقول:

    -إن لدى الرابطة عملا في خدمة النساء الأرامل و المطلقات الفقيرات. نعلمهن حرف يدوية حتى لا يلجأن للتسول.

    -هذا شيء ممتاز.

    قالت "جميلة" بحماس, فإبتسمت "نادية" و قالت:

    -هل يمكنك أن تنضمي إلينا لتعلمينهن كيفية حياكة الملابس الصوفية؟

    إبتسمت "جميلة" و شردت ببصرها قليلا قبل أن تقول:

    -كم كنت أتمنى أن أعمل في حياكة الملابس بماكينة التريكو, بل إنني كنت أحلم بأنني أنشأت مصنعا صغيرا.

    و ضحكت لسذاجتها, غير أن "نادية" قالت تؤنبها:

    -لا تستخفي بأحلامك يا إبنتي فمن يدري, ربما تحققت يوما ما.

    أومأت "جميلة" برأسها مؤمنة:

    -نعم من يدري.

    -و الآن هل توافقين؟

    -بكل سرور.

    و إستدركت مغمغمة:

    -و لكن..

    -هل من مشكلة؟

    -لا أريد أن يعرف عمي أو زوجته بهذا الأمر.

    إبتسمت "نادية" بتفهم:

    -أعدك.

    و صمتت قليلا ثم نهضت قائلة:

    -سأطلب من الحاج أن يفرغك من العمل يوميا من الساعة الثانية عشرة ظهرا. و بما أن المحل ليس ببعيد عن هنا, فلن يكون الأمر مرهقا لك.

    -أشكرك يا عمتي.

    -لم نتفق على الأجر؟

    إستنكرت "جميلة":

    -لا يا عمتي, ماذا تقولين؟ أنا لن أقبل شيئا.

    -و لم لا؟

    تعجبت "نادية", فردت "جميلة":

    -أريده صدقة لروح والدي.

    ضمتها "نادية" بحنان مشفق و هي تغمغم:

    -حفظك الله يا إبنتي.

    * * *
    Dr: Milani
    Dr: Milani
    مشرفة روائع الروح والعقل
    مشرفة  روائع الروح والعقل


    انثى
    عدد المشاركات : 225
    رقم العضوية : 106
    المستوى : Specialist
    الاقامة : Khartoum
    نقاط النشاط : 16778
    السٌّمعَة : 0
    تاريخ التسجيل : 30/05/2009

    متميز رد: و أتى الربيع...

    مُساهمة من طرف Dr: Milani الإثنين 25 أكتوبر 2010, 4:30 pm

    الفصل السابع

    لملمت "جميلة" حاجياتها و هي تستعد للذهاب إلى محل تدريب الحياكة. إلتفتت "إخلاص" و "آمال" إلى بعضهما و تساءلت عيونهما عن السبب الذي يدفع "جميلة" إلى مغادرة الدوام يوميا في الثانية عشرة ظهرا. و لم تستطع "آمال" أن تصبر فسألت "جميلة":

    -ألن تخبرينا لم أصبح دوامك ينتهي في منتصف النهار و ليس الرابعة عصرا؟

    إبتسمت "جميلة" و هي ترد ببساطة:

    -إن لي عملا في مكان آخر.

    -ماذا؟ و هل يقبل الحاج "إسماعيل" و الباشمهندس "مجتبى" بذلك؟

    تساءلت "إخلاص" بدهشة شديدة, فأجابت "جميلة":

    -الحاج إسماعيل يعرف بكل تأكيد.

    نظرت الأخرتان إلى بعضهما و كلا منهما تفكر بأن "جميلة" قد أصبح لديها أجرا أكثر نسبة لعملها الآخر, و لما لمحت نظراتهن, أسرعت تقول:

    -فيم تفكرن؟

    تطلعتا إلى بعضهما قبل أن تكسر "إخلاص" الصمت قائلة:

    -و كم يبلغ أجرك؟

    ضحكت "جميلة" و هي ترد:

    -لا شيء.

    و خرجت تاركة كلتيهما تفغر فاهها دهشة.

    * * *

    بعد أن خرجت "جميلة", إقتربت "آمال" من "إخلاص" هامسة:

    -أتظنين أنها قد صدقتنا القول؟

    -و لم لا؟

    تساءلت "إخلاص", فردت "آمال":

    -كيف للمرء أن يعمل دون أجر؟

    رفعت "إخلاص" كتفيها كناية عن عدم الفهم, فعادت "آمال" تقول:

    -و هل تظنين فعلا إن الحاج "إسماعيل" يعلم بالأمر؟

    برقت عينا "إخلاص" و هي تجيب:

    -ألا تذكرين أن مدام "نادية" قد حضرت قبل اسبوعين و طلبت التحدث إلى "جميلة" على إنفراد.

    -أجل. فهل لديك فكرة عما دار بينهما؟

    -فقط تذكرت أن "جميلة" قد إبتدأ غيابها منذ اليوم التالي لذلك.

    لوحت "آمال" بإصبعها و هي تهتف:

    -ربما تكونين على حق.

    -أين "جميلة"؟

    جاء صوت الباشمهندس "مجتبى" الآمر فنهضت كلتاهما, و أسرعت "آمال" تجيب:

    -خرجت.

    نظرت "إخلاص" إليها بعتاب, بينما عاد "مجتبى" يسأل:

    -إلى أين؟

    -لا ندري, و لكنها قالت إن لديها عملا آخر.

    -هكذا إذن!

    رد "مجتبى" بصوت هادر, إرتجفت له أوصالهما.

    -أخبرنها أن تأتي إلى مكتبي حالما تصل.

    -إنها لن تأتي اليوم.

    قالت "أمال" فصرخ "مجتبى":

    -و متى ستأتي إذن؟

    تلعثمت "آمال" و هي ترد:

    -صباح الغد.

    صرخ مرة أخرى:

    -فلتأت إلى مكتبي ساعة تصل.

    و خرج صافقا الباب وراءه تاركا "إخلاص" تعاتب "آمال" بشدة..

    * * *

    دلفت "جميلة" و هي تبتسم رافعة يدها بالتحية لموظف الإستقبال, ثم أسرعت تصعد السلم كعادتها, ففاجأتها يد قاسية تقيض على معصمها. صرخت بذعر و هي تلتفت إلى صاحب اليد.

    -أنت! ماذا تفعل؟ دع معصي.

    إبتسم صاحب اليد الذي لم يكن إلا "مجتبى" و هو يقول بنبرة قاسية:

    -لن أفعل.

    و جرها خلفه و هو يصعد السلم حتى بلغا غرفة مكتبه.

    -هل يمكنك أن تدع معصي الآن؟

    ترك معصمها و جلس و هو يسأل من بين أسنانه بغضب:

    -هل يمكنك أن تخبريني أن تذهبين كل يوم بعد الثانية عشرة ظهرا؟

    -ليس هذا من شأنك.

    صرخ في وجهها:

    -بل هو من صميم شأني, فأنا نائب المدير و المسئول عن الموظفين.

    صرخت فيه:

    -إن كنت كما تقول, فحاسبني كما يحاسب الموظفون و أرسل لي إعلانا بذلك.

    تطلع إليها بدهشة.. لم يكن أحدا قد صرخ في وجهه قبل اليوم, و أراد أن يتكلم إلا أنها صرخت ثانية و هي تلوح بإصبعها محذرة:

    -و إياك أن تترصدني أو تمسك معصمي و تجرني خلفك هكذا مرة أخرى, و إلا..

    إبتسم بتهكم مغمغما:

    و إلا ماذا؟

    -سأشكوك إلى الحاج "إسماعيل".

    و خرجت و الغضب يتراقص على محياها, بينما أخذ "مجتبى: يؤنب نفسه بقسوة لما قام به.. (كيف أسمح لنفسي بأن أثور؟ لقد كنت دوما باردا لا يبدو على الغضب و إن تملكني).. تنهد بعمق و هو يغمض عينيه.. (إن هذه ال"جميلة" تثير أعصابي بطريقة لم أعهدها..) قال في نفسه.. (و لو كان موظفا آخر من قام بما قامت به, لأرسلت إليه بإنذار مكتوب, و إن أعاد الكرة أجري مجلس محاسبة, فلماذا أتعامل معها هكذا يا ترى؟)..

    و فتح عينيه فجأة لما تبين له السبب فإبتسم و أسرع إلى مكتب الحاج "إسماعيل".

    * * *

    لما دخل "مجتبى" مكتب الحاج "إسماعيل" وجده مهموما و الحزن على محياه, فسأله:

    -ما الأمر يا حاج؟

    صمت الحاج "إسماعيل" و قبل أن يرد دخلت "جميلة".. تطلعت إلى "مجتبى" بغيظ, بينما حاول أن يبتسم في وجهها.

    -لقد طلبتني يا عمي.

    ذهل "مجتبى" لعبارتها و نظر إليها متسائلا غير أنها لم تلتفت إليه.

    نهض الحاج "إسماعيل" و إتجه نحوها و هو ينظر في عينيها بحزن:

    -إن ما لدي لن يعجبك يا إبنتي.

    إزدادت دهشة "مجتبى", و أراد أن يتساءل, إلا أن "جميلة" فاجأته بقولها:

    -هل إستغنيت عن خدماتي يا عمي؟

    تطلع إليها الحاج مندهشا و هو يهز برأسه أن لا.. بدأت "جميلة" ترتجف و هي تقول:

    -ما الأمر إذن؟

    -لقد توفي عمك "عثمان".

    بدت الصدمة بأسوأ علاماتها على وجه "جميلة" التي صرخت بأعلى صوتها:

    -لاااااااااااا

    و إندفت تجري خارج المكتب, و الحاج "إسماعيل" يهتف مناديا. أما "مجتبى" فأسرع يركض خلفها, فلحق بها و هي تحاول إيقاف سيارة أجرة:

    -دعيني أوصلك بسيارتي.

    قال برجاء فدفعته بعيدا و أوقفت سيارة أجرة ركبتها بسرعة و هي تقول:

    -دعني وحدي.
    Dr: Milani
    Dr: Milani
    مشرفة روائع الروح والعقل
    مشرفة  روائع الروح والعقل


    انثى
    عدد المشاركات : 225
    رقم العضوية : 106
    المستوى : Specialist
    الاقامة : Khartoum
    نقاط النشاط : 16778
    السٌّمعَة : 0
    تاريخ التسجيل : 30/05/2009

    متميز رد: و أتى الربيع...

    مُساهمة من طرف Dr: Milani الجمعة 29 أكتوبر 2010, 10:16 am

    الفصل الثامن..

    قبعت "جميلة" في غرفتها -بعد إنتهائها من وداع آخر المعزين في اليوم السابع لوفاة عمها-.. كانت ترتدي ثوب الحداد الأسود, و الدموع تسيل على وجنتيها بصمت. و فجأة أتاها صوت "فوزية" آمرا:

    -تعالي يا فتاة.

    لبت النداء بخطوات أرهقتها الأعمال المنزلية, و أنهكتها قلة النوم خلال الأسبوع الماضي و غمغمت:

    -هل تريدين شيئا؟

    أشارت فوزية بيدها:

    -إنك لن تقيمي في هذه الغرفة بعد اليوم

    -هل أذهب إلى غرفة أخرى؟

    ردت "جميلة" تحاول إنهاء الحديث, فإبتسمت "فوزية" بشماتة قائلة:

    -ستقيمين منذ الليلة في غرفة الخادمة.

    إتسعت عينا "جميلة" لهول الصدمة و هتفت:

    -و لكن لماذا؟

    أشاحت "فوزية" برأسها بعيدا و هي ترد:

    -لقد صرفت الخادمة لأننا لا نستطيع أن ندفع أجرها.

    أرادت "جميلة" أن تستفسر عن أموال عمها الكثيرة التي كانت تعلم بوجودها, غير أن المرأة إستمرت تقول:

    -و بما أنني لا أريد أن أطردك, فستبقين في غرفتها على أن تستمري في دفع أجرك الشهري لي, و أن تعملي بدلا عن الخادمة.

    قالت "جميلة" بإستسلام:

    -و كيف يتأتى لي العمل في الشركة و القيام بأعباء المنزل؟

    إنتهرتها "فوزبة":

    -تصرفي, و إلا فإبحثي عن مأوى آخر.

    و إبتعدت تاركة "جميلة" تكاد تختنق من العبرات.

    * * *

    كانت الساعة العاشرة مساء لما أكملت "جميلة" عملها في نظافة المطبخ و جلي الصحون. أرادت أن تتناول طعام العشاء ففتحت الثلاجة لتأخذ بعض الجبن و المربى ففوجئت ب"فوزية" تصرخ:

    -ماذا تفعلين؟

    ردت بدهشة:

    -أتناول عشائي.

    أسرعت "فوزية" تسحب منها ما تحمله و هي تقول:

    -عشاؤك في الصحفة التي كانت قرب المجلى.

    ذعرت جميلة لما تذكرت تلك الصحفة فقالت:

    -و لكن ما بها من طعام كان باليا.

    مطت "فوزية" شفتيها مجيبة:

    -إنه طعامك.

    -تنهدت "جميلة" و بدأ الدمع يتساقط من عينيها قائلة بصوت خافت:

    -كما أنني قد رميته.

    صرخت "فوزية" بغضب:

    -رميته؟

    ثم جذبت "جميلة" خارج المطبخ و هي تردف:

    -لا عشاء آخر لك.

    و أغلقت باب المطبخ بالمفتاح ثم غادرت..

    لم تدر "جميلة" إلا و هي تسرع إلى غرفتها الجديدة ثم تلقي بجسدها المكدود على الفراش القاسي و تبكي بشدة.

    لم تدر كم ظلت تبكي و لا متى نامت, لكنها إنتبهت لتجد أضواء الفجر تغمر الأفق. نهضت متثاقلة لتغتسل, ثم إرتدت عباءتها لتصلي الفجر. بعد أن أدت صلاتها جلست تشكو لربها ما تعانيه من ظلم و تعذيب و جوع.

    -"جميلة", ألم تستيقظي بعد؟

    خرق صوت "فوزية" القاسي صمت الفجر الجليل. و بذعر ردت "جميلة":

    -آتية.

    و أسرعت لتبدأ يومها الجديد, بطبخ و تنظيف, قبل أن تسرع لتلحق دوام العمل.

    * * *

    -"جميلة", مرحبا بعودتك.

    قالت "إخلاص" و هي تنهض لتحتضن "جميلة", التي ردت بصوت مرهق:

    -مرحبا بك.

    سلمت عليها "آمال" بخجل, فلم تكن قد ذهبت لتعزيتها, غير أن "جميلة" لم تتذكر الأمر.

    -لقد سأل عنك الباشمهندس "مجتبى".

    بدا على "جميلة" الإمتعاض لكنها نهضت قائلة:

    -سأذهب إليه من فوري.

    و بخطوات تخالف ما إعتاده الجميع منها, سارت حتى بلغت غرفة "مجتبى".. طرقت الباب و لما أتاها صوته يأذن لها دخلت.

    -"جميلة" مرحبا بك.

    قال "مجتبى" بنبرة مشتاقة لم تنتبه لها:

    -مرحبا بك يا باشمهندس.

    -تفضلي بالجلوس.

    جلست, فجلس قبالتها و هو يتطلع إليها.. كان الحزن قد حفر أخاديده على وجهها الصبوح الجميل. و بدت عيناها مثقلتين و السواد يحيط بهما. شعر بقلبه يعتصر بين ضلوعه, همس قائلا:

    -كيف حالك؟

    إنتبهت "جميلة" للهجته فعقدت حاجبيها و هي ترد:

    -الحمد لله. هل تأمرني بشئ؟

    تلعثم "مجتبى":

    -لا.

    -فلم طلبتني إذن؟

    تساءلت بصوت متضايق, فصمت قليلا لا يدري كيف يبدأ:

    -لقد أخبرني الحاج "إسماعيل" بكل شيء.

    تطلعت إليه دون رد, فأكمل:

    -لم لم تخبريني بحقيقة كونك إبنة أخ المرحوم "عثمان", و لم تركتني أشك بأمرك؟

    -لم يكن هناك سبب لأخبرك, كما أنني طلبت من الحاج أن يبقي الأمر سرا حتى يعاملني الجميع كموظفة, لا قريبة له.

    -و لكنني لست الجميع.

    قال بصوت تشي نبراته بالحب, إلا أن "جميلة" لم تنتبه أيضا:

    -و كيف ذلك؟

    سألته بصرامة, فرد متلعثما:

    -لقد تقابلنا قبل أن تأتي إلى هنا. أتذكرين؟

    سخرت:

    -يمكنك أن تقول ذلك لنفسك, فأنت لم تدخر وسعا في إهانتي على الرغم من أنك علمت أنني من قابلتها في الطريق.

    خفض عينيه بمزيج من الندم و الخجل و قال:

    -ألن تغفري لي؟

    نهضت مجيبة:

    -الله يغفر لنا جميعا.

    و خرجت تاركة "مجتبى" لا يدري كيف له أن يجعلها تفهم ما يعتمل في داخله تجاهها من حب.

    * * *
    Dr: Milani
    Dr: Milani
    مشرفة روائع الروح والعقل
    مشرفة  روائع الروح والعقل


    انثى
    عدد المشاركات : 225
    رقم العضوية : 106
    المستوى : Specialist
    الاقامة : Khartoum
    نقاط النشاط : 16778
    السٌّمعَة : 0
    تاريخ التسجيل : 30/05/2009

    متميز رد: و أتى الربيع...

    مُساهمة من طرف Dr: Milani الإثنين 01 نوفمبر 2010, 12:31 pm

    الفصل التاسع

    كانت "جميلة" تراقب العاملات في محل الحياكة. تعين هذه و ترشد تلك.. و من بعيد جلست "نادية" تنطلع إليها بحيرة.. و بعد شد و جذب مع نفسها نادتها, فأقبلت "جميلة" و إبتسامة صغيرة على شفتيها:

    -أهلا عمتي "نادية". هل من خدمة.

    - إجلسي قليلا يا "جميلة".

    جلست الأخيرة متسائلة.

    -ما خطبك؟ لا أظن أن الحزن على عمك هو سبب ما أراك عليه.

    خفضت "جميلة" عينيها هاربة من نظرات "نادية" الفاحصة و بتلعثم قالت:

    -و كيف ترينني؟

    مالت "نادية" نحوها قائلة بإشفاق:

    -أرى أنك قد إزددت نحولا و شحوبا يا إبنتي خلال الشهرين الماضيين.

    صمتت "جميلة" لا تدري كيف تخبرها عما تعانيه من زوجة عمها الراحل.. عمل طوال اليوم في الطبخ و التنظيف و غسل الأواني و الملابس.. ثم إنها لا تتناول إلا القليل من الطعام الذي لا يقيم أودها, و في غالب الأحيان يكون باليا.. و فوق ذلك فإن "فوزية" تستولي على كل أجرها من الشركة, فلا تتمكن من تناول وجبة الفطور عندما تكون في الشركة.

    إبتسمت بأسى.. و هي تقول لنفسها إن هذه مشكلتها هي, و يكفيها أن تتألم لوحدها دون أن تشرك آخر من يعطف عليها.. الحاج "إسماعيل" و زوجته "نادية".

    -أين ذهب بك التفكير يا إبنتي.

    إنتبهت "جميلة" على صوت "نادية" المتسائل, فردت بإبتسامة:

    -إلى لا مكان.

    ثم طبعت قبلة على رأس "نادية" و إنصرفت مرددة:

    -لا تشغلي نفسك بي فأنا بخير و الحمد لله.

    و تابعتها "نادية" ببصرها بقلق..

    * * *

    لمح "مجتبى" "جميلة" تمر أمام مكتبه, فنهض يريد أن يوقفها, إلا أنها غابت داخل مكتب الحاج "إسماعيل".. فوقف لحظات ينتظر خروجها, و لما خرجت بادر يسألها:

    -هل أنت بخير؟

    لمحت اللهفة في عينيه و نبرات صوته, فتساءلت عما تعنيه.. وقفت تتطلع إليه و كأنها تريد سبر غوره.. ثم واصلت سيرها و هي تقول:

    -أنا بخير و الحمد لله.

    أسرع خلفها متسائلا:

    -و لكنك أصبحت شديدة النحول و شاحبة يا "جميلة".

    وقفت و هي مطرقة برأسها.. إنهم جميعا قلقون عليها, و لكنها لا تستطيع أن تشي بزوجة عمها, فتلك تعتبر –في عرفها- خيانة لذكرى عمها العزيز.

    دمعت عيناها, فقال "مجتبى" تجزع:

    -ما الأمر يا "جميلة"؟

    و أردف متوسلا:

    -إنني أشد ما أكون قلقا عليك, فلا تعذبيني بصمتك.

    تطلعت إليه من بين قطرات الدمع و إبتسمت في وجهه, فتنهد و قد إزدادت دقات قلبه.. (إنها المرة الأولى –منذ أتت للعمل هنا- تبتسم لي.. ترى أيكون هذه فاتحة خير لي فأتحدث عما أحمله في قلبي لها؟).. جالت تلك الأفكار في رأسه, و لما أراد أن يتحدث, وجدها تترنح و هي تحاول أن تستند على الجدار, و ما لبثت أن سقطت على الأرض فاقدة الوعي.

    * * *

    -"جميلة".

    صوت "مختار" الغليظ بدأ يقترب منها و هي تحاول جاهدة الإختباء. كانت الأمطار تهطل بغزارة و البرد قارس.. تلفتت حولها فلم تجد إلا ذلك الكوخ المهجور فأسرعت تدخله مغلقة الباب خافها.. كان الظلام دامسا, إلا أنها وجدت بين طيات ثوبها علبة كبريت, فأشعلت عود ثقاب محاذرة أن ينتشر ضوؤه..

    لحظات مرت و لم تسمع صوت "مختار" فقررت أن تظل بالكوخ حتى الصباح, و لما أرادت أن تجلس إذا بيد تمسك بمعصمها فإنتفضت و سقط عود الثقاب من يدها لينطفئ على الأرضية المبتلة.

    -أمسكت بك.

    عرفت صوت "فوزية" الشامت فأرادت أن تصرخ إلا أن صوتا لم يخرج من حلقها

    -إنها هنا يا "مختار".

    هتفت فوزية تنادي الرجل, فإزداد رعبها و أرادت جاهدة أن تدفعها بعيدا دون جدوى, و..

    -"جميلة" إستيقظي يا حبيبتي.

    فتحت "جميلة" عينيها ليطالعها وجه "مجتبى" الذي كان يمسك يدها بحنان و هو يمسح حبات العرق الغزير التي غمرت وجهها..

    تطلعت إليه مندهشة من مظهره المزري, و وجهه غير الحليق و ملابسه المجعدة.. ثم إنتبهت لما وجدت أنها في مكان لا تعرفه فهبت من رقدتها و هي تصرخ:

    -أين أنا؟

    -"جميلة" حبيبتي, هوني عليك.

    دفعها برفق لتستلقي مجددا غير أنها أبعدت يده و هي تصرخ:

    -إبتعد عني.

    إستجاب لطلبها و هو يقول:

    -لقد أغمي عليك في الشركة فنقلناك إلى المستشفى.

    تذكرت فجأة أنها تأخرت عن العودة إلى المنزل فنهضت مسرعة و هي تهتف:

    -يا إلهي, لقد تأخرت, ستوبخني مدام "فوزية" كثيرا.

    و بذكر إسمها دخلت "فوزية" و هي تقول بحنق:

    -أيتها الغبية, كيف سمحت لك نفسك أن تقيمي في مستشفى باهظ التكاليف كهذا؟ أتظنين أن لدي ما يكفي لدفع أجرة مركز صحي ناهيك عن هذا المستشفى؟

    و أرادت أن تصفع "جمبلة" إلا أن "مجتبى" أمسك بها و هو يفول بصوت بارد:

    -إياك أن تمدي يدك عليها مرة أخرى و إلا فلا تلومي إلا نفسك.

    -لا تتدخل بيني و بين قريبتي.

    خاطبته "فوزية" ثم إلتفتت إلى "جميلة" مردفة بنظرة تحذير:

    -أليس كذلك يا فتاة؟

    أومأت "جميلة" برأسها بخوف, فإزداد غضب "مجتبى":

    -قريبتك؟ قريبتك هذه لديها فقر دم حاد قال الطبيب أن سببه نقص التغذية, فأين كنت أيتها القريبة الصالحة؟

    -أنا..

    تلعثمت "فوزية" و لكن "مجتبى" لم يدع لها مجالا للنقاش و هو يستطرد:

    -لم تعودي قريبتها, و الآن أخرجي من هنا.

    نظرت إليه "فوزية" بغضب, ثم نظرت إلى "جميلة" محذرة:

    -إياك أن تأتي ذات يوم لتطلبي مني أن أسمح لك بالإقامة عندي.

    -إنها لن تحتاجك بعد اليوم.

    قال "مجتبى" و هو يدفع "فوزية" خارج الغرفة.

    -لماذا فعلت ذلك؟

    هتفت "جميلة" و بصوت تخنقه العبرات, فرفع حاجبيه دهشة و هو يرد:

    -ظننت أنني أنقذتك منها.

    صرخت:

    -و من طلب إليك إنقاذي؟

    ثم دفنت وجهها بين يديها و إنفجرت بالبكاء و هي تقول:

    -أين أذهب الآن؟ لم يعد لدي مأوى.

    -تزوجي بي.

    رفعت وجهها إليه مرددة:

    -ماذا؟

    -تزوجي بي.

    قال بنبرة حنونة فصرخت مرة أخرى:

    -ماذا؟

    ثم أشاحت بيدها و هي تردف:

    -إشفاقا على تريد الزواج مني؟

    -لا و الله يعلم ذلك يا "جميلة".

    تطلعت إليه لحظات.. جزء في قلبها فرح للطلب.. غير أن عقلها وجده غير منطقي:

    -لا.

    -لا.

    -نعم. لا أقبل.

    -و لماذا؟

    هتف بتوسل.

    -إن غفلنا عن الظروف الحالية, فكيف يتزوج مثلك ممن هي مثلي؟

    -لماذا تقللين من قدر نفسك؟

    قال بغيظ, فإبتسمت بحزن و هي ترد:

    -ليس تقليلا من أمر نفسي بل إنها الحقيقة.. أنت غني, و ذو مكانة و مستوى مرموق.

    و صمتت قليلا لتقول بتهكم:

    -و أنا قروية فقيرة يتيمة معدمة, لا أملك مأوى و لا قوت.

    لطمة عنيفة على خدها فاجأتها فوضعت يدها على موضعها و نظرت إليه غير مصدقة:

    -سامحيني. لم أقصد ذلك و لكنني لم أحتمل تحدثك عن نفسك بهذه الطريقة.

    -أخرج.

    كلمة واحدة لم تزد عليها قالتها و أشاحت بوجهها بعيدا.

    -"جميلة", ماذا تفعلين؟

    صوت "نادية" المندهش فاجأهما معا, فإطرقت "جميلة", بينما أسرع "مجتبى" يغادر الغرفة.

    جلست "نادية" جوار "جميلة" و إحتضنتها بأمومة, فإستكانت الأخيرة مطلقة العنان لدموعها.

    -حمدا لله على سلامتك يا إبنتي.

    منعت الدموع "جميلة" من الرد, فربتت "نادية" عليها قائلة بحنو:

    -أتعلمين أن "مجتبى" قد تبرع لك بوحدتي دم كاملتين؟

    رفعت "جميلة" رأسها عن صدر "نادية" قائلة بذهول:

    -هل كنت مريضة إلى هذا الحد؟

    -أجل يا إبنتي. و "مجتبى" لم يخبرني أو الحاج بالأمر, لكنني علمت من الممرضات اللاتي سحرهن.

    قالت جملتها الأخيرة و هي تغمز بعينها, فخفضت "جميلة" بصرها حياء, و إبتدأ قلبها يزيد من دقاته بصورة أثارت دهشتها.

    -و تطردينه؟

    قالت "نادية" بإبتسامة خبيثة, فإزداد خجل "جميلة".

    -هل يا ترى سمعت أنه يريد الزواج بك أم أنني على خطأ؟

    أومأت "جميلة" برأسها, فضمتها "نادية" أكثر و هي تهمس في أذنها:

    -أنصحك ألا تضيعيه, ف"مجتبى" هو الإبن الذي لم نرزق به, و صدقيني لا يوجد من هو أكمل منه خلقا و طيبة.

    -كيف يا عمتي, و هو لم يفتأ منذ قابلني يصرخ في وجهي و يسخر مني.

    و صمتت قليلا ثم رفعت يدها إلى موضع لطمته مردفة:

    -و الآن يلطمني.

    -هل فعل ذلك؟

    قالت "ناديلة" غير مصدقة, فأجابت "جميلة":

    -بلى.

    ضحكت "نادية" و قرصتها بتحبب:

    -ذاك من فعل المحبين أحيانا.

    -يحبني؟

    قالت "جميلة" بإستغراب, فإبتسمت "نادية" و أومأت برأسها و هي ترد:

    -نعم, يحبك, و لقد لاحظنا أنا و الحاج ذلك قبل مدة طويلة, و لكننا لم نشأ أن نسأله.

    -هل يمكنني الدخول.

    صوت "مجتبى" البائس قاطعهما فنظرت "جميلة" إلى "نادية" و هي تهز رأسها أن لا, غير أن "نادية" قالت:

    -تفضل.

    دخل و هو مطرق برأسه:

    -أعتذر عما بدر مني.

    -لا بأس.

    أسرعت "جميلة" ترد بإبتسامة خجلى, فنظر إليها غير مصدق.

    نهضت "نادية" و همست في أذنه بضع كلمات ثم ربتت على كتفه و خرجت. تطلع إلى "جميلة" بنظرة عاشقة فخفضت عينيها حياء, و غردت طيور الحب.

    * * *
    Dr: Milani
    Dr: Milani
    مشرفة روائع الروح والعقل
    مشرفة  روائع الروح والعقل


    انثى
    عدد المشاركات : 225
    رقم العضوية : 106
    المستوى : Specialist
    الاقامة : Khartoum
    نقاط النشاط : 16778
    السٌّمعَة : 0
    تاريخ التسجيل : 30/05/2009

    متميز رد: و أتى الربيع...

    مُساهمة من طرف Dr: Milani الأحد 07 نوفمبر 2010, 6:37 pm

    الفصل العاشر:


    فجأة تذكرت "جميلة" العهد الذي قطعته على نفسها حين مغادرتها القرية قبل شهور, فجمدت ملامحها و شردت ببصرها بعيدا.. (كيف لي أن أقبل بإرتباط مع أي شخص قبل أن أسترد بيتي و أحقق وعدي لوالدي؟).. قالت تؤنب نفسها.. و لكن قلبها هتف يرجوها: ( إنه الحب الأول في حياتك.. أفلا تمنحيه الفرصة؟).. تنهدت (لا أستطيع, مع أنني كنت أتمناه فعلا), و عادت ببصرها ترمق "مجتبى" بنظرات لم يفهمها, فقال:

    -أنت تخيفينني بهذه النظرات.

    -ماذا تريد مني؟

    سألته ببرود, فرفع حاجبيه دهشة و قال:

    -لا أفهم!

    و أشار إلي الباب الذي خرجت منه "نادية" و أكمل:

    -لقد أخبرتني العمة –و هكذا كان يخاطب "نادية"- بموافقتك.

    -على ماذا؟

    بنفس البرود سألته, فغمغم مرتبكا:

    -على الزواج مني.

    -إنني لن أتزوج أبدا.

    فغر فاه من الدهشة ثم إستدرك قائلا:

    -ماذا؟

    -ما قلته.

    -"جميلة" إنني أحبك.

    قال بعاطفة إرتجف لها قلبها و عيناها. لاحظ ذلك, فأسرع يردف:

    -هلا أعطيت نفسك فرصة للتفكير.

    صمتت و بانت الحيرة على ملامحها فقال:

    -أرجوك.

    بدأ قلبها يتنازع مع عقلها, فأجابت تريد أخذ هدنة:

    -و لكنني لن أعدك بشيء.

    إبتسم بثقة و قال:

    -لا بأس. سأنتظر ردك, و أعلم أنه سيرضيني.

    صمتا لحظة, ثم نهضت من فراشها و هي تقول:

    -كم تبلغ أجرة المستشفى؟

    -لقد دُفعت.

    -من دفعها؟

    صمت قليلا فتطلعت إليه ثم برقت عيناها بالفهم:

    -أنت أيضا؟

    تنحنح قائلا:

    -لا بأس بذلك, فأنت منا.

    تنهدت و إندفعت الدموع إلى عينيها و هي تغمغم:

    -آه يا إلهي.

    و جلست دافنة وجهها بين يديها فقال بجزع:

    -ما الأمر.

    -لا أستطيع.

    -لا تستطيعين ماذا؟

    و أبعد يديها عن وجهها ليمسح دموعها فإلتقت عيونهما بنظرة طويلة.

    -هل تخبريني ما الذي لا تستطيعينه؟

    من وسط دموعها قالت بصوت متقطع:

    -إنكم تحيطونني بحنانكم و عطفكم, و أنت تتبرع لي بدمك و تدفع أجرة هذا المستشفى –و أظنها باهظة- فكيف أستطيع أن أرد فضلكم علي؟

    إبتسم مداعبا:

    -تستحقين صفعة أخرى لقولك هذا.

    -ماذا؟

    هتفت , فضحك ثم أجاب:

    -ألا تعلمين أن الحاج و العمة يعتبرانك بنتا لهما.

    و تطلع إلى عينيها مباشرة و هو يكمل:

    -و لم أكن لأتركك و أنت بحاجة إلى نقل دم دون أن أتبرع لك ببعض دمي.

    و إزدادت إبتسامته و هو يردف:

    -لعل دمي الذي سيصل قلبك يخبرك كم أن صاحبه يهواك.

    إبتسمت بسعادة و خفضت عينيها قبل أن تقول:

    -لقد أخبره.

    بلهفة قال:

    -و ما كان رد قلبك؟

    نهضت لتقف أمام النافذة و هي تجيب بخجل:

    -نفس الشيء.

    صرخ بفرحة إلا أنها قاطعته قائلة:

    -و لكن.

    -ماذا؟

    -لا أعدك بالزواج إلا بعد أن أنفذ عهدا قطعته على نفسي.

    -هل يمكنني أن أعرفه؟

    -لا أظن.

    -فهل أستطيع أن أساعدك إذن في تحقيقه؟

    نظرت بعيدا و هي تقول بحزم:

    -إنها قضيتي وحدي.

    * * *

    خرجت "جميلة" من المستشفى إلى منزل الحاج "إسماعيل" مباشرة. و جلست ساهمة بين الجميع, فنظرت "نادية" إلى "مجتبى" مستفهمة:

    -إنها على هذا الحال طوال الطريق.

    -يا لها من فتاة مسكينة.

    قالت "نادية" بشفقة, و أكملت:

    -فقدت الأب و الأم ثم العم, و لم يعد لديها أي أقارب.

    ثم إلتفتت إلى "مجتبى" متسائلة:

    -هل وافقت على الزواج يا ولدي؟

    -وافقت بشرط.

    قالت بفضول:

    -ما هو؟

    تنهد و هو يرد:

    -أن تفي بعهد قطعته على نفسها.

    -يا إلهي.

    هتفت "نادية" فتساءل بلهفة:

    -هل لديك معرفة بذاك العهد أيتها العمة؟

    هزت رأسها بأسى و قالت:

    -نعم.

    -هل تستطيعين إخباري به؟

    نظرت إليه بأسى و ردت:

    -لا يمكنني أن أخون ثقتها يا ولدي.

    ثم أمسكت يده بضراعة:

    -أرجوك لا تتركها وحدها أبدا مهما حدث.

    ربت على يدها يطمئنها و هو ينظر إلى "جميلة":

    -أعدك أيتها العمة.

    ساد الصمت بينهم حتى قالت "جميلة":

    -أريد أن أطلب شيئا يا عمتي.

    -تفضلي يا إبنتي.

    -هل تعرفين سكنا للفتيات أستطيع أن أستأجر غرفة فيه؟

    هتفت "نادية":

    -ماذا تقولين؟

    ردت "جميلة" برجاء:

    -لا يمكنني أن أكون عالة عليكم يا عمتي. لقد غمرتموني بعطف لم أجد مثله من قبل, و لكنني لا أستطيع أن أبقى لديكم إلى الأبد.

    إبتسم "مجتبى" و هو يقول:

    -إنه لن يكون الأبد, فقط حتى نتزوج.

    تطلعت "جميلة" إليه بحزن و هزت رأسها مرددة:

    -أرجوك يا عمتي.

    -لا بأس يا "جميلة".

    قال الحاج "إسماعيل", أنا أعرف المكان الذي تقيم فيه "إخلاص" و "آمال", و يمكنني أن أسأل إن كانت لديهم غرفة شاغرة.

    -ماذا تقول يا حاج؟

    هتفت "نادية" مخاطبة زوجها, فرد قائلا:

    -إنني أعرف "جميلة" و نفسها الأبية جيدا, لذا دعيها تفعل ما تريده.

    و إلتفت إلى جميلة قائلا بحنان أبوي:

    -و لكن لا تقطعي زياراتك لنا.

    إبتسمت "جميلة" و أجابت:

    -و هل أجرؤ يا عمي.

    * * *

    -"جميلة".

    هتفت "إخلاص" و هي تطرق باب غرفة "جميلة" في سكن الفتيات ذلك المساء فأتاها صوت الأخيرة يدعوها للدخول.

    -إنك تلتزمين غرفتك دائما و لا تخرجين إلا لماما.

    -معذرة يا "إخلاص" فإنني أعود من العمل منهكة.

    ردت "جميلة" بإبتسامة إعتذار.

    سمعتا طرق الباب فخرجت "إخلاص" لتفتحه.

    -لديك زائرة يا "جميلة".

    قالت "إخلاص" بغموض, فإلتفتت "جميلة" بتساؤل, و إنفرجت أساريرها عن إبتسامة فرح لما وحدت أن الزائرة هي "نادية":

    -مرحبا عمتي.

    قالت دون أن تلقي بالا لدهشة "إخلاص" التي تركتهما مغلقة الباب خلفها.

    إحتضنت "نادية" "جميلة" و هي تقول:

    -كيف حالك يا إبنتي؟

    -بخير حال ما دمت أراكم يا عمتي.

    ربتت "نادية" على كتفها و جلست مجيلة النظر في الغرفة التي على الرغم من تواضعها كانت فائقة الترتيب و النظافة.

    -هل أنت على مايرام لوجودك هنا.

    إصطنعت "جميلة" إبتسامة واثقة و هي ترد:

    -بكل تأكيد.

    -و ماذا تفعلين في وقت فراغك؟

    -أتسلى بالحياكة.

    -لقد جئتك بهدية.

    قالت "نادية" و نهضت تفتح باب الغرفة مشيرة ل"جميلة":

    -هاهي.

    أسرعت "جميلة" لترى الهدية, و صرخت لما فتحتها:

    -ماكينة تريكو!

    و إندفعت تقبل "نادية" و الدموع تغمر خديها قائلة:

    -لا أدري كيف أشكرك يا عمتى.

    ربتت "نادية" على كتفها و هي ترد:

    -بأن تأتيني بكل ما تستطيعين خياطته لأعرضه في السوق المفتوحة للجمعية, فمن يدري ربما تصيبين ربحا وفيرا.

    هتفت "جميلة":

    -أعدك.

    ثم قالت بخفوت:

    -علي أن أشتري الصوف.

    أشارت "نادية" إلى صندوق كبير, فأسرعت "جميلة" تفتحته لتجده مليئا ببكرات الصوف الملونة.

    نظرت ناحية "نادية" و عادت عيناها تمتلئان بالدموع مجددا و هي تغمغم:

    -هذا كثير.

    -و أنت تستحقينه يا إبنتي.

    و نظرت في ساعة يدها ثم أردفت:

    -علي الآن أن أعود إلى المنزل.

    و قبلت "جميلة" و هي تقول:

    -دعينا نرى همتك يا عزيزتي.

    ودعتها "جميلة: و هي تؤكد أنها ستبدأ الحياكة فورا.

    * * *
    Dr: Milani
    Dr: Milani
    مشرفة روائع الروح والعقل
    مشرفة  روائع الروح والعقل


    انثى
    عدد المشاركات : 225
    رقم العضوية : 106
    المستوى : Specialist
    الاقامة : Khartoum
    نقاط النشاط : 16778
    السٌّمعَة : 0
    تاريخ التسجيل : 30/05/2009

    متميز رد: و أتى الربيع...

    مُساهمة من طرف Dr: Milani الأحد 07 نوفمبر 2010, 6:41 pm

    الفصل العاشر:


    فجأة تذكرت "جميلة" العهد الذي قطعته على نفسها حين مغادرتها القرية قبل شهور, فجمدت ملامحها و شردت ببصرها بعيدا.. (كيف لي أن أقبل بإرتباط مع أي شخص قبل أن أسترد بيتي و أحقق وعدي لوالدي؟).. قالت تؤنب نفسها.. و لكن قلبها هتف يرجوها: ( إنه الحب الأول في حياتك.. أفلا تمنحيه الفرصة؟).. تنهدت (لا أستطيع, مع أنني كنت أتمناه فعلا), و عادت ببصرها ترمق "مجتبى" بنظرات لم يفهمها, فقال:

    -أنت تخيفينني بهذه النظرات.

    -ماذا تريد مني؟

    سألته ببرود, فرفع حاجبيه دهشة و قال:

    -لا أفهم!

    و أشار إلي الباب الذي خرجت منه "نادية" و أكمل:

    -لقد أخبرتني العمة –و هكذا كان يخاطب "نادية"- بموافقتك.

    -على ماذا؟

    بنفس البرود سألته, فغمغم مرتبكا:

    -على الزواج مني.

    -إنني لن أتزوج أبدا.

    فغر فاه من الدهشة ثم إستدرك قائلا:

    -ماذا؟

    -ما قلته.

    -"جميلة" إنني أحبك.

    قال بعاطفة إرتجف لها قلبها و عيناها. لاحظ ذلك, فأسرع يردف:

    -هلا أعطيت نفسك فرصة للتفكير.

    صمتت و بانت الحيرة على ملامحها فقال:

    -أرجوك.

    بدأ قلبها يتنازع مع عقلها, فأجابت تريد أخذ هدنة:

    -و لكنني لن أعدك بشيء.

    إبتسم بثقة و قال:

    -لا بأس. سأنتظر ردك, و أعلم أنه سيرضيني.

    صمتا لحظة, ثم نهضت من فراشها و هي تقول:

    -كم تبلغ أجرة المستشفى؟

    -لقد دُفعت.

    -من دفعها؟

    صمت قليلا فتطلعت إليه ثم برقت عيناها بالفهم:

    -أنت أيضا؟

    تنحنح قائلا:

    -لا بأس بذلك, فأنت منا.

    تنهدت و إندفعت الدموع إلى عينيها و هي تغمغم:

    -آه يا إلهي.

    و جلست دافنة وجهها بين يديها فقال بجزع:

    -ما الأمر.

    -لا أستطيع.

    -لا تستطيعين ماذا؟

    و أبعد يديها عن وجهها ليمسح دموعها فإلتقت عيونهما بنظرة طويلة.

    -هل تخبريني ما الذي لا تستطيعينه؟

    من وسط دموعها قالت بصوت متقطع:

    -إنكم تحيطونني بحنانكم و عطفكم, و أنت تتبرع لي بدمك و تدفع أجرة هذا المستشفى –و أظنها باهظة- فكيف أستطيع أن أرد فضلكم علي؟

    إبتسم مداعبا:

    -تستحقين صفعة أخرى لقولك هذا.

    -ماذا؟

    هتفت , فضحك ثم أجاب:

    -ألا تعلمين أن الحاج و العمة يعتبرانك بنتا لهما.

    و تطلع إلى عينيها مباشرة و هو يكمل:

    -و لم أكن لأتركك و أنت بحاجة إلى نقل دم دون أن أتبرع لك ببعض دمي.

    و إزدادت إبتسامته و هو يردف:

    -لعل دمي الذي سيصل قلبك يخبرك كم أن صاحبه يهواك.

    إبتسمت بسعادة و خفضت عينيها قبل أن تقول:

    -لقد أخبره.

    بلهفة قال:

    -و ما كان رد قلبك؟

    نهضت لتقف أمام النافذة و هي تجيب بخجل:

    -نفس الشيء.

    صرخ بفرحة إلا أنها قاطعته قائلة:

    -و لكن.

    -ماذا؟

    -لا أعدك بالزواج إلا بعد أن أنفذ عهدا قطعته على نفسي.

    -هل يمكنني أن أعرفه؟

    -لا أظن.

    -فهل أستطيع أن أساعدك إذن في تحقيقه؟

    نظرت بعيدا و هي تقول بحزم:

    -إنها قضيتي وحدي.

    * * *

    خرجت "جميلة" من المستشفى إلى منزل الحاج "إسماعيل" مباشرة. و جلست ساهمة بين الجميع, فنظرت "نادية" إلى "مجتبى" مستفهمة:

    -إنها على هذا الحال طوال الطريق.

    -يا لها من فتاة مسكينة.

    قالت "نادية" بشفقة, و أكملت:

    -فقدت الأب و الأم ثم العم, و لم يعد لديها أي أقارب.

    ثم إلتفتت إلى "مجتبى" متسائلة:

    -هل وافقت على الزواج يا ولدي؟

    -وافقت بشرط.

    قالت بفضول:

    -ما هو؟

    تنهد و هو يرد:

    -أن تفي بعهد قطعته على نفسها.

    -يا إلهي.

    هتفت "نادية" فتساءل بلهفة:

    -هل لديك معرفة بذاك العهد أيتها العمة؟

    هزت رأسها بأسى و قالت:

    -نعم.

    -هل تستطيعين إخباري به؟

    نظرت إليه بأسى و ردت:

    -لا يمكنني أن أخون ثقتها يا ولدي.

    ثم أمسكت يده بضراعة:

    -أرجوك لا تتركها وحدها أبدا مهما حدث.

    ربت على يدها يطمئنها و هو ينظر إلى "جميلة":

    -أعدك أيتها العمة.

    ساد الصمت بينهم حتى قالت "جميلة":

    -أريد أن أطلب شيئا يا عمتي.

    -تفضلي يا إبنتي.

    -هل تعرفين سكنا للفتيات أستطيع أن أستأجر غرفة فيه؟

    هتفت "نادية":

    -ماذا تقولين؟

    ردت "جميلة" برجاء:

    -لا يمكنني أن أكون عالة عليكم يا عمتي. لقد غمرتموني بعطف لم أجد مثله من قبل, و لكنني لا أستطيع أن أبقى لديكم إلى الأبد.

    إبتسم "مجتبى" و هو يقول:

    -إنه لن يكون الأبد, فقط حتى نتزوج.

    تطلعت "جميلة" إليه بحزن و هزت رأسها مرددة:

    -أرجوك يا عمتي.

    -لا بأس يا "جميلة".

    قال الحاج "إسماعيل", أنا أعرف المكان الذي تقيم فيه "إخلاص" و "آمال", و يمكنني أن أسأل إن كانت لديهم غرفة شاغرة.

    -ماذا تقول يا حاج؟

    هتفت "نادية" مخاطبة زوجها, فرد قائلا:

    -إنني أعرف "جميلة" و نفسها الأبية جيدا, لذا دعيها تفعل ما تريده.

    و إلتفت إلى جميلة قائلا بحنان أبوي:

    -و لكن لا تقطعي زياراتك لنا.

    إبتسمت "جميلة" و أجابت:

    -و هل أجرؤ يا عمي.

    * * *

    -"جميلة".

    هتفت "إخلاص" و هي تطرق باب غرفة "جميلة" في سكن الفتيات ذلك المساء فأتاها صوت الأخيرة يدعوها للدخول.

    -إنك تلتزمين غرفتك دائما و لا تخرجين إلا لماما.

    -معذرة يا "إخلاص" فإنني أعود من العمل منهكة.

    ردت "جميلة" بإبتسامة إعتذار.

    سمعتا طرق الباب فخرجت "إخلاص" لتفتحه.

    -لديك زائرة يا "جميلة".

    قالت "إخلاص" بغموض, فإلتفتت "جميلة" بتساؤل, و إنفرجت أساريرها عن إبتسامة فرح لما وحدت أن الزائرة هي "نادية":

    -مرحبا عمتي.

    قالت دون أن تلقي بالا لدهشة "إخلاص" التي تركتهما مغلقة الباب خلفها.

    إحتضنت "نادية" "جميلة" و هي تقول:

    -كيف حالك يا إبنتي؟

    -بخير حال ما دمت أراكم يا عمتي.

    ربتت "نادية" على كتفها و جلست مجيلة النظر في الغرفة التي على الرغم من تواضعها كانت فائقة الترتيب و النظافة.

    -هل أنت على مايرام لوجودك هنا.

    إصطنعت "جميلة" إبتسامة واثقة و هي ترد:

    -بكل تأكيد.

    -و ماذا تفعلين في وقت فراغك؟

    -أتسلى بالحياكة.

    -لقد جئتك بهدية.

    قالت "نادية" و نهضت تفتح باب الغرفة مشيرة ل"جميلة":

    -هاهي.

    أسرعت "جميلة" لترى الهدية, و صرخت لما فتحتها:

    -ماكينة تريكو!

    و إندفعت تقبل "نادية" و الدموع تغمر خديها قائلة:

    -لا أدري كيف أشكرك يا عمتى.

    ربتت "نادية" على كتفها و هي ترد:

    -بأن تأتيني بكل ما تستطيعين خياطته لأعرضه في السوق المفتوحة للجمعية, فمن يدري ربما تصيبين ربحا وفيرا.

    هتفت "جميلة":

    -أعدك.

    ثم قالت بخفوت:

    -علي أن أشتري الصوف.

    أشارت "نادية" إلى صندوق كبير, فأسرعت "جميلة" تفتحته لتجده مليئا ببكرات الصوف الملونة.

    نظرت ناحية "نادية" و عادت عيناها تمتلئان بالدموع مجددا و هي تغمغم:

    -هذا كثير.

    -و أنت تستحقينه يا إبنتي.

    و نظرت في ساعة يدها ثم أردفت:

    -علي الآن أن أعود إلى المنزل.

    و قبلت "جميلة" و هي تقول:

    -دعينا نرى همتك يا عزيزتي.

    ودعتها "جميلة: و هي تؤكد أنها ستبدأ الحياكة فورا.

    * * *
    Dr: Milani
    Dr: Milani
    مشرفة روائع الروح والعقل
    مشرفة  روائع الروح والعقل


    انثى
    عدد المشاركات : 225
    رقم العضوية : 106
    المستوى : Specialist
    الاقامة : Khartoum
    نقاط النشاط : 16778
    السٌّمعَة : 0
    تاريخ التسجيل : 30/05/2009

    متميز رد: و أتى الربيع...

    مُساهمة من طرف Dr: Milani الأحد 14 نوفمبر 2010, 6:09 pm

    الفصل الحادي عشر

    بعد مضي ثلاثة أشهر إتصلت "نادية" ب"جميلة" هاتفيا طالبة منها أن تأتي إلى حفل الجمعية المقام بعد يومين, و أن ترتدي أفخم ما لديها. ضحكت "جميلة" كثيرا فهي كانت تهتم بالبساطة في الملبس دائما.

    لم تكن "نادية" قد أخبرتها إن كانت الملابس التي حاكتها خلال الأشهر السابقة قد بيعت أم لا. و هي من تلقاء نفسها لم تشأ أن تسألها.

    لما عادت إلى غرفتها, إستعرضت ما لديها من ثياب فوجدتها لا تصلح لترتديها للحفل, فعزمت على الذهاب إلى السوق القريبة لتتبضع.

    حيت "آمال" و "إخلاص" الجالستين –كعادتهما- أمام شاشة التلفاز, فردت كلتاهما التحية دون أن ترفع بصرها.

    و خرجت سائرة على قدميها و هي تفكر هل تشتري بلوزة و جونلة, أم فستانا, أم عباءة.. و إبتسمت و هي تحيي من تجده في طريقها, حتى وصلت السوق.

    أثارت إعجابها بذلة باللون الأسود عليها تخفيض فسألت عن سعرها, و لما وجدته يناسب ميزانيتها المحدودة, أسرعت تبتاعها و هي تفكر بالقميص ذات اللون الأبيض التي كانت تقبع في خزانتها منذ مدة.

    خرجت من المحل و هي تتساءل إن كان ما تبقى لديها من مال سيكفيها لتشتري حذاء و خمارا لرأسها.. دخلت المحل المجاور الذي يبيع الخمارات لتختار واحدا بذات لون قميصها.

    و لما أحصت بقية نقودها وجدتها لا تكفي لشراء حذاء, فإبتسمت و خرجت و هي تفكر أن ترتدي حذاءها الأسود عالي الكعبين الذي أهدته إياها "نادية" الشهر الماضي.

    عادت "جميلة" إلى مسكنها و هي سعيدة. كانت تلك أول حفلة للجمعية تدعى لها. و أسرعت إلى غرفتها لتقوم بتجربة البذلة مع قميصها و الخمار و الحذاء.

    -ما هذا ما هذا!

    قالت "آمال" بدهشة, فردت "جميلة" ببساطة:

    -لقد دعيت إلى حفل الجمعية النسائية.

    -من دعاك؟

    تساءلت "آمال" بشك, فردت "جميلة" مباشرة:

    -عمتي "نادية".

    هنا دخلت "إخلاص" الغرفة و هي تقول:

    -إننا نريد أن نسألك عن سر علاقتك بمدام "نادية".

    إبتسمت "جميلة" و هي ترد:

    -لا يوجد سر, فالحاج "إسماعيل" كان صديقا لعمي.

    نظرت الأخرتان كل واحدة إلى الأخرى و غمغمتا:

    -هكذا إذن.

    ثم خرجتا و الغيرة تعصف بأعماقهما.

    * * *

    دلفت "جميلة" إلى قاعة الحفل في تمام الساعة السادسة مساء كما طلبت إليها "نادية", التي ما أن رأتها حتى أسرعت إليها مرحبة:

    -أنت متألقة جدا هذا المساء يا إبنتي.

    و غمزت بعينها و هي تهمس:

    -أين "مجتبى" ليرى هذا الجمال؟

    -عمتي.

    قالت "جميلة" بإحتجاج, فضحكت "نادية" و هي تجذبها من معصمها:

    -تعالى معي.

    و دخلت إلى جناح مظلم, فلما أشعلت "نادية" الأضواء هتفت "جميلة":

    -عمتي!

    -إنه معرضك فأمكثي فيه.

    و لوحت بإصبعها محذرة:

    -و إياك أن تبيعي شيئا بثمن أقل مما هم مكتوب عليه.

    و ضحكت ثم خرجت تاركة "جميلة" مسمرة و هي تتطلع إلى ما قامت بحياكته خلال الأشهر الماضية من وشاحات و قبعات و قفازات و معاطف بكل المقاسات..

    -هل إفتتح المعرض بعد؟

    صوت "مجتبى" الدافئ الهامس إخترق أذنيها إلى قلبها مباشرة فردت دون أن تلتفت:

    -بلى.

    و ذهبت لتقف خلف منصة البيع و هو يتطلع إليها بإعجاب شديد:

    -أنت أكثر جمالا هذا المساء.

    -يكفي هذا يا باشمهندس, نحن في عمل.

    إبتسم لحرجها ثم أخذ يتطلع إلى المعروضات بعناية.

    -أخبرتني العمة أنك تعدين مفاجأة, فهل هذا ما كانت تعنيه.

    آه يا عمتي.. قالت "جميلة" لنفسها , ثم ردت:

    -لقد كانت مفاجأة لي أنا أيضا, فقد ظننتها دعتني للحضور لا للإشراف على هذا المعرض.

    -أريد أن أشتري هذا المعطف.

    و اشار إلى أحدها فإتجهت "جميلة" إليه و نظرت في بطاقة السعر و ما لبثت أن شهقت:

    -هذا كثير.

    -هذا ما حذرتني منه العمة.

    إلتفتت إليه و قالت بدهشة:

    -ماذا؟

    إبتسم و رد:

    -كانت تعلم أنك ستعترضين على الثمن المعروض فطلبت إلي أن أكون أول من يدخل معرضك لأحذرك مرة أخرى من بيع شيء بثمن غير ما كتب عليه.

    -و لكن الثمن باهظ.

    -أنت لا تقدرين قيمة أعمالك يا إبنتي.

    دخلت "نادية" و هي تقول تلك العبارة, فتساءلت "جميلة":

    -و لكن هل يستطيع الناس شراءها؟

    ضحكت "نادية" و "مجتبى" و أخرج الأخير حافظة نقوده و أخذ منها مبلغا معينا دفعه في يد "جميلة":

    -سيشترون.

    قال بثقة فتطلعت إليه غير مصدقة.

    -هيا, و لا تقفي هكذا دون حراك.

    إنتبهت "جميلة" لعبارة "نادية" فأسرعت تطوي المعطف بعناية و تضعه داخل صندوق فاخر قائلة:

    -هنيئا لك.

    ضحك الجميع و قال "مجتبى":

    -هكذا تقومين بالبيع يا "جميلة".

    و خرج مع "نادية" و هو يهمس في أذنها:

    -أراك لاحقا.

    و بعد بضعة لحظات بدأ الناس يتوافدون على معرضها و يبدون إعجابهم بالمعروضات.. و كانت توزع إبتساماتها و هي تجيب على أسئلتهم بثقة و بساطة.

    و لما بلغت الساعة العاشرة مساء كان معرضها فارغا بعد أن بيعت كل المعروضات. جلست بسعادة و هي تحصي النقود و إندهشت للمبلغ الكبير الذي جمعته.

    -أرى أنك قد نجحت نجاحا مبهرا يا إبنتي. إن الجميع يتحدثون عن معرضك بإنبهار شديد.

    دفعت "جميلة" بالنقود إلى "نادية" فقالت الأخيرة:

    -ما هذا؟

    -ثمن المعروضات.

    -و ماذا أفعل به؟

    تطلعت "جميلة" إليها بدهشة فربتت "نادية" على كتفها قائلة:

    -إنها معروضاتك و إنها نقودك أنت وحدك.

    -و لكن.

    قالت "جميلة" تعترض, فقاطعتها "نادية":

    -لا توجد لكن يا "جميلة".

    -ماذا أفعل بكل هذه النقود؟

    -فكري.

    قالت "نادية" بغموض, و خرجت تاركة "جميلة" تتساءل عما كانت تعنيه.

    جلست "جميلة" و هي تقول في نفسها: (أتمنى أن يكون لي عملي الخاص و معرض للملابس الصوفية, و لكن هذا المبلغ و إن كان كبيرا فإنه لن يمكنني من تحقيق ذلك).. تنهدت و فكرت قليلا ثم قالت: (ربما إذا...), و خرجت و قد عقدت العزم على أمر ما...

    * * *
    Dr: Milani
    Dr: Milani
    مشرفة روائع الروح والعقل
    مشرفة  روائع الروح والعقل


    انثى
    عدد المشاركات : 225
    رقم العضوية : 106
    المستوى : Specialist
    الاقامة : Khartoum
    نقاط النشاط : 16778
    السٌّمعَة : 0
    تاريخ التسجيل : 30/05/2009

    متميز رد: و أتى الربيع...

    مُساهمة من طرف Dr: Milani الإثنين 29 نوفمبر 2010, 9:38 pm


    الفصل الثاني عشر



    -ماذا تقولين يا إبنتي؟
    هتف الحاج "إسماعيل" بتلك العبارة بجزع و هو ينهض من مقعده, فإبتسمت "جميلة" و هي تسرع إليه قائلة:
    -عمي..
    عقد حاجبيه غاضبا و هو يقاطعها صائحا:
    -كيف تطلبين مني قبول إستقالتك, أتريدينني أن أحنث بوعدي لعمك -رحمه الله-.
    -مهلا حتى تسمع حجتي يا عمي.
    قالت "جميلة" برجاء فزفر بحنق و عاد يجلس و هو يقول:
    -تكلمي و أقنعيني.
    إبتسمت بصبر و جلست بدورها قائلة:
    -أنت تعلم أنني عاهدت روحي والدي بأنني سأستعيد بيتنا يوما ما, أليس كذلك.
    -بلى.
    أجاب بصبر فارغ, فأسرعت تردف:
    -و حتى أتمكن من فعل هذا علي أن أجمع مبلغا كبيرا من المال.
    -هل تريدين زيادة في الأجر يا إبنتي.
    لوحت بكفيها مجيبة:
    -لا يا عمي. لا يمكنني أن أطلب ذلك, فأنت لا تبخل علي بأي شيء كما أن أجري يفوق بالفعل أجر بقية السكرتيرات هنا.
    و صمتت قليلا قبل أن تردف:
    -لقد وجدت أن حياكة الملابس الصوفية قد درت علي مبلغا لا بأس به من المال, فإرتأيت أن أخصص وقتي كله للحياكة, إذ ربما أتمكن من جمع المبلغ الذي أريده في أسرع وقت.
    أنهت عبارتها و نطلعت إليه برجاء, فغمغم قائلا:
    -حسنا, و لكنني لن أقبل إستقالتك.
    -ماذا؟
    -سأعطيك إجازة مدفوعة الأجر لعام كامل. بعدها تقررين إن كنت ستستقيلين أم لا, إذ ربما تغيرين رأيك.
    نهضت قائلة بحماس:
    -أشكرك كثيرا يا عمي.
    و أسرعت بالخروج لتبدأ رحلة كفاحها الفردي..
    * * *
    بعد أن جمعت "جميلة" حاجياتها من مكتبها إتجهت إلى مكتب "مجتبى". طرقت الباب برقة و دخلت و هي تقول:
    -هل يمكنني أن أتحدث إليك يا باشمهندس؟
    إبنسم بحب و رد:
    -كل وقتي ملكك يا عزيزتي.
    خفق قلبها لإبتسامته, و غمغمت بخجل:
    -ألم أطلب إليك ألا تتحدث معي هكذا و نحن في العمل؟
    نهض ليقف خلفها و هو يهمس في أذنيها:
    -ما بيدي حيلة.
    إبتسمت بسعادة ثم تنحنحت و قالت:
    -لقد أتيت لأخبرك أنني أخذت إجازة لعام من العمل, و ربما أعود بعدها أو لا أعود.
    -ماذا؟
    هتف بلوعة, فأسرعت تقول:
    -هل تجلس لأشرح لك؟
    جلسا على الأريكة, و بدا عليه التوتر الشديد و هو يتطلع إليها متسائلا, فأشاحت بوجهها و هي تخبره بما دار بينها و الحاج "إسماعيل". و لما إنتهت أخذ نفسا عميقا و قال:
    -"جميلة", لماذا تخفين عني ماهية وعدك لوالديك-رحمهما الله-؟ ألا تثقين بي؟
    رمقته بنظرة حانية و ردت:
    -إن كنت لا أثق بك فكيف ...
    و قطعت عبارتها حياء.. ساد الصمت بينهما لحظات قبل أن يقطعه بقوله:
    -حسنا.. لن أضغط عليك.
    -أشكرك.
    قالت بخفوت ثم تطلعت إليه مرة أخرى برجاء قائلة:
    -هل توافق على إجازتي؟
    قال بمكر:
    -هل تسحبينها إن إعترضت؟
    عقصت حاجبيها و هي ترد بحسم:
    -لا.
    -إذن لا يمكنني سوى الموافقة.
    و إبتسم بحنان و هو يكمل:
    -إنني أثق بك يا عزيزتي. و ستجدينني معك دوما.
    بادلته إبتسامته ثم نهضت قائلة:
    -أراك لاحقا.
    -متى و أين؟
    تساءل بلهفة, فإنتبهت إلى الموقف و قالت بحيرة:
    -لا أدري. أنت تعلم أنني محافظة و لم أكن أقابلك إلا هنا.
    و صمتا, و "جميلة" يتنازعها الأسى لفراقها "مجتبى" الذي كانت تراه يوميا.
    -سأجد طريقة, و حتى ذلك اليوم سأحادثك هاتفيا.
    قال بثقة و هو يتطلع إليها بحب.
    * * *
    مر شهران على "جميلة", و هي في عمل دائم طوال اليوم.. كانت قد إبتاعت بالمبلغ الذي كسبته من بيع معروضاتها, ماكينة أكثر تطورا و الكثير من الأصواف الملونة و الباترونات.
    كان "مجتبى" يتصل يوميا ليطمئن عليها.. و يدعها بعد المكالمة في حال من الهيام و السعادة لم تشعر بها قبلا.. و كانت تكثر من الصلاة آملة أن تتمكن من إفتتاح معرض خاص بها للملابس الصوفية,- خاصة و أن الشتاء قد إقترب كثيرا- حتى تتمكن من جمع المال لإسترداد بيتها.. و بخجل تدعو ربها أن يكلل حبها ل"مجتبى" بالزواج.
    في ذلك اليوم, ألقت نظرة على ما قامت بحياكته, و إمتلأت نفسها فخرا, فأسرعت ترتدي ملابس الخروج متجهة إلى منزل الحاج "إسماعيل".
    قابلتها "نادية" بفرح و قالت معاتبة:
    -هكذا لا نراك إلا بعد شهر؟
    -أعتذر يا عمتي و لكن العمل كان يشغلني.
    ربتت "نادية" على كتفها و قالت:
    -لا بأس يا بنيتي.
    -عمتي, هل تعرفين محلا يمكنني إستئجاره لعرض الملابس التي أنتجتها؟
    ردت "نادية" بحماس:
    -ما رأيك بالمحل الذي كنت تساعدين فيه تلكم النسوة؟
    -و لكنه تابع للجمعية؟
    -أريد أن أعرض عليك أمرا.
    قالت "نادية" بهدوء, فتساءلت "جميلة":
    -ماذا؟
    -ما رأيك لو أدرت المحل شراكة بينك و بين الجمعية؟
    -و كيف ذلك؟
    -تستمرين في معاونة النسوة, دون أن يؤثر ذلك على عملك, على أن تأخذي كل المال الذي يرد من بيع منتجاتك, و ثلث منتجات النسوة.
    -و لكن.
    -لا توجد لكن يا "جميلة". أم تظنين أن ليس لديك الوقت لمعاونتهن؟
    -لا أقصد ذلك يا عمتي.
    -كما أن مقترحي يضمن ألا يتوقف العمل على المنتجات الصوفية وحدها.
    فكرن "جميلة" قليلا ثم إبتسمت و صافحت "نادية" و هي تقول:
    -إتفقنا.
    * * *
    بدأت "جميلة" العمل في محل الجمعية, فقامت بتنظيمه على أساس أن يكون جزءا منه للحياكة تجلس فيه العاملات, و الجزء الآخر معرضا للمنتجات. كما عينت سكرتيرة تجلس نيابة عنها للبيع ,حتى تتفرغ هي لمعاونة النسوة و حياكة ما يخصها.
    -آنسة "جميلة".
    أتاها صوت سكرتيرتها فرفعت رأسها و هي تقول:
    -ما الأمر يا حنان.
    -شخص يطلب مقابلتك.
    خفق قلب "جميلة" و هي تفكر في "مجتبى" و أسرعت تصلح من هندامها و هي تتجه إلى المعرض, حيث كان هو واقفا يتطلع إلى المعروضات بإهتمام.
    -شرفت المعرض يا باشمهندس.
    صوتها الرقيق إتجه إلى قلبه مباشرة فإلتفت إليها بلهفة و الشوق يطل من عينيه و قال:
    -كم إشتقت إليك.
    خفضت وجهها بحياء و هي ترد:
    -ستسمعك النسوة يا "مجتبى".
    -مال نحوها و هو يهمس:
    -و كيف يمكنني كتمان مشاعري, أتظنينني قاسي القلب مثلك؟
    قال عبارته الأخيرة بخبث فنظرت إليه بلوم, ثم ضحكت و هي تطلب إليه أن يجلس.
    -معي شخص يريد أن يقابلك؟
    -من هو؟
    قالت بفضول, فخرج و هو ينادي:
    -أبي هيا لأعرفك على "جميلة".
    -آت.
    ذلك الصوت.. قالت "جميلة" في نفسها و قلبها ينقبض بشدة.. لا يمكن أن يكون هو.. أرجوك يا ربي, لا تدعه يكون هو..
    -هذه "جميلة" يا أبي.
    -أنت؟
    صرخت "جميلة" بفزع ثم نظرت إلى "مجتبى" بحسرة و هي تقول:
    -أهذا هو والدك؟ "مختار"؟
    تطلع "مجتبى" إليهما بدهشة و هو يرد:
    -بلى. هل تعرفان بعضكما.
    قالت "جميلة" بتهكم:
    -كل المعرفة.
    و نظرت إلى "مختار" بإحتقار فنكس رأسه بصمت.
    -أخرجا من هنا.
    صرخت "جميلة" بتلك العبارة, فتطلع إليها "مجتبى" بصدمة و قال:
    -ماذا تقولين.
    -أخرجا كلاكما, لا أريد أن أرى أيا منكما بعد اليوم.
    -أنا لا أفهم شيئا.
    قال "مجتبى" ثم أمسك بكتفي "جميلة" و تطلع في عينيها مباشرة:
    -"حبيبتي, أخبريني ما المشكلة؟
    نزعت يديه عن كتفيها بقسوة و قالت بصوت قاطع كحد السيف:
    -لست حبيبتك فلا تدعني بتلك الصفة. لقد إنتهى ما بيننا إلى الأبد.
    -"جميلة"..
    بدأ "مختار" يتحدث, فقاطعته قائلة:
    -لا أريد أن أسمع شيئا.
    و إتجهت إلى الباب لتفتحه و هي تردف:
    -إلى الخارج.
    خرج "مختار" مسرعا بينما ظل "مجتبى" يتطلع إليها بحسرة, غير أنها لم تلق بالا لنظراته بعد أن أعماها الغضب, فخرج و الدموع تتلألأ في مقلتيه.
    * * *
    Dr: Milani
    Dr: Milani
    مشرفة روائع الروح والعقل
    مشرفة  روائع الروح والعقل


    انثى
    عدد المشاركات : 225
    رقم العضوية : 106
    المستوى : Specialist
    الاقامة : Khartoum
    نقاط النشاط : 16778
    السٌّمعَة : 0
    تاريخ التسجيل : 30/05/2009

    متميز رد: و أتى الربيع...

    مُساهمة من طرف Dr: Milani الأربعاء 01 ديسمبر 2010, 10:54 am


    الفصل الثالث عشر

    إندفعت "جميلة" إلى حضن "نادية" و هي تبكي بحرارة أدهشت الأخيرة, فسألتها بقلق:
    -خيرا يا بنيتي!
    أجابتها "جميلة" بالمزيد من البكاء, فأسرعت بها "نادية" إلى غرفتها مغلقة الباب وراءهما.
    -ما بك يا "جميلة"؟ أخبريني فقد أثرت قلقي.
    -إنه إبن "مختار".
    قالت بصوت متقطع من شدة البكاء, فعادت "نادية" تسألها:
    -من "مختار" و من إبنه؟
    -"مجتبى".
    ردت "جميلة" بمرارة.
    قالت "نادية" بإستغراب:
    -كلنا نعلم أن والده هو "مختار", فما الجديد؟
    قالت "جميلة" بحسرة:
    -كنت أظن أنه مجرد إسم على إسم, و لكن اليوم فقط تبين لي أنه إبن "مختار".
    رفعت "نادية" حاجبيها بإستغراب و هي تتساءل:
    -لا أفهمك!
    تطلعت إليها "جميلة" طويلا قبل أن تجيب و الألم يغلف كلماتها:
    -إن "مختار" الذي أعنيه هو الرجل الذي إستولى على بيتي في القرية.
    شهقت "نادية":
    -يا إلهيّ!
    -أنا فقط لا أدري كيف لم أتعرفه؟ كيف يكون إبن ذاك الرجل و أنا لم أره من قبل؟
    قالت "جميلة" بمرارة شديدة جعلت قلب "نادية" يختلج إشفاقا و هي تقول:
    -لقد علمت من الحاج "إسماعيل" أن "مجتبى" لم يمكث في القرية مذ دخل المدرسة الثانوية هنا. و ربما كان ذلك هو السبب في أن أيا منكما لم يتعرف الآخر.
    إبتدأت "جميلة" تضحك بهستيرية ... ثم صمتت قليلا قبل أن تقول:
    -أرأيت يا عمتي كم أنا منحوسة الحظ؟.. يوم ظننت الدنيا قد إبتسمت و وجدت فارس أحلامي, إذا بها تأتيني بالمزيد من المصائب.
    إحتضنتها "نادية" بإشفاق و هي تقول:
    -و ما ذنب "مجتبى" إن كان ذاك الرجل والده؟
    صرخت "جميلة":
    -ما ذنبه؟
    و لوحت بيديها مردفة:
    -ذنبه أنه إبن ذاك الرجل الظالم القلب.
    و شردت ببصرها بعيدا و قد عادت إليها ذكريات الأيام التي قضتها مع "مجتبى" فإبتسمت و عادت الدموع تتساقط على خديها.
    -إنك تحبينه يا بنيتي.
    قالت "نادية" بنبرة واثقة, فرفعت "جميلة" رأسها بعناد و قالت:
    -لم يعد في قلبي مكان له.
    -إنها الصدمة, و أنا متأكدة من أنك ستعودين عن هذا القول قريبا.
    -كلا يا عمتي. لقد أخرجته من حياتي إلى الأبد.
    قالت بحزم فنظرت إليها "نادية" بعدم تصديق زادها غضبا فصرخت مرددة:
    -إلى الأبد.
    و خرجت صافقة الباب خلفها بعنف.
    * * *
    دخل "مجتبى" حجرة والده و هو يقول بإنفعال:
    -هل يمكنك الآن أن تشرح لي بالضبط ما الذي يحدث؟
    أطرق "مختار" برأسه و لم يحر جوابا.. كان يشعر بالخجل –لأول مرة- من تصرفاته.. صحيح أنه مزواج, و ويعلم أنه لا يعرف الرحمة, و لم يكن يدع أحدا أو شيئا يقف بينه و بين ما يريد, إلا أنه هذه المرة لم يدر كيف يبرر لولده الأمر.
    -أبي؟
    هتف "مجتبى" بغضب مكبوت, فتنهد "مختار" و إبتلع ريقه بصعوبة ثم قال:
    -سأقص عليك كل شيء يا ولدي.
    ثم رفع نظر إلى "مجتبى" قائلا بإستعطاف:
    -و أرجو ألا تقسو علي في الحكم.
    قلق عصف بمشاعر "مجتبى" و هو يشير لوالده أن يبدأ, فإزدرد الأخير لعابه:
    -إن "جميلة" هي إبنة أحد الفلاحين في قريتنا, و قد كان والدها مدينا لي بمبلغ من المال, غير أنه توفي قبل أن يسدد ما عليه من دين.
    و صمت و الخجل يغمره, فقال "مجتبى":
    -أرجوك, أكمل.
    صمت "مختار" لحظات يستجمع فيها شجاعته ثم أكمل:
    -و لما لم تكن "جميلة" تملك ما يكفي للسداد, فقد أخذت منها البيت الذي تقيم فيه. و هذا كل شيء.
    قال عبارته الأخيرة بسرعة أثارت الشك في قلب "مجتبى", فعاد يسأل:
    -أبي, لا تخفي عني شيئا, فسأعرف الحقيقة كلها إن عاجلا أو آجلا.
    تطلع إليه والده برجاء, قابله بهزة رأس. صمتا قليلا ثم قال الأب و الذل يقطر من كلماته:
    -لقد عرضت عليها الزواج.
    صرخ "مجتبى":
    -ماذا؟
    و بدا عليه عدم التصديق و هو يهتف:
    -إنها في عمر صغرى أخواتي يا أبي.
    أطرق "مختار" بخجل و قال:
    -كنت أنوي أن أعيد لها بيتها إن هي وافقت على الزواج بي.
    إتسعت عينا "مجتبى" و صرخ:
    -أبي, لا أصدق ما تفعلهّ
    و نهض يجول في الغرفة كليث حبيس و هو يقول:
    -أعلم أنك مزواج, و لكن لم أتخيل يوما أنك تفكر بالزواج من فتاة في سنها, و الأسوأ من ذلك, مساومتك لها.
    و تطلع إلى أبيه و هو يقول بحسرة:
    -الآن أعلم أنها كانت محقة في طردنا.
    و ركع على ركبتيه أمام والده و قال و هو يحاول كتمان دموعه:
    -لقد فقدت الإنسانة الوحيدة التي أحببتها و تمنيت أن تشاركني بقية حياتي. فليسامحك الله يا أبي.
    و خرج مسرعا, تاركا "مختار" لأول مرة في حياته يشعر بالندم...
    * * *
    دخل "مجتبى" الشركة صبيحة اليوم التالي و هو مكفهر الوجه. إتجه فورا إلى مكتب الحاج "إسماعيل" و دخل و هو يقول بخفوت:
    -صباح الخير يا حاج.
    قال بنبرة متوترة, فنهض الحاج "إسماعيل" و إتجه إليه قائلا:
    -لا أدري ماذا أقول يا ولدي.
    أطرق "مجتبى" و قال:
    -هل علمت بالأمر؟
    أومأ الحاج برأسه إيجابا و هو يربت على كتف "مجتبى" بإشفاق.
    -ستعود عن رأيها قريبا.
    قال الحاج بأمل, فهز "مجتبى" رأسه و هو يقول:
    -لا أظن و لا ألومها على قرارها.
    و إتجه إلى نافذة الغرفة و وقف صامتا لحظات و هو يتطلع إلى البعيد ثم أردف:
    -إنني في شدة الخجل مما فعله أبي.
    تطلع الحاج بإشفاق إلى "مجتبى" الذي إلتفت و هو يخرج ورقة من جيبه, و قال:
    -هذه إستقالتي يا حاج, أرجو أن تقبلها و لا تراجعني فيها, فقد عزمت على الهجرة إلى إنجلترا.
    -ماذا؟
    قال الحاج بصدمة, لكن "مجتبى" تقدم ليعطيه الورقة ثم أسرع يخرج دون أية كلمة أخرى.
    * * *
    جلست "جميلة" - كعادتها منذ عرفت بأمر "مختار"- منزوية في المحل ساهمة.. كانت تستعيد شريط ما حدث مرة تلو المرة.
    -آنسة "جميلة", شخص يطلب مقابلتك.
    نهضت من فورها و بدت في مشيتها كإنسان آلي.
    -مرحبا.
    تفاجأت لما وجدت أنه "مختار" فبدت على وجهها علامات الإحتقار, و لما أرادت أن تأمره بالخروج قال بتذلل:
    -لن آخذ من وقتك إلا بضع دقائق.
    و مد يده إليها بورقة قائلا:
    -هذا صك ملكية بيتك, لقد تنازلت لك عنه.
    إبتسمت بسخرية و قالت:
    -لم كل هذا الكرم؟
    خفض عينيه و هو يغمغم:
    -لم أفعل ذلك من أجلك.
    ثم رفع عينيه و هو يكمل:
    -فعلته من أجل "مجتبى".
    رعشة أصابتها لما سمعت الإسم.. و واصل يقول:
    -لقد هاجر إلى أوروبا قبل بضعة أسابيع. ولا أظن أنه سيعود مرة أخرى.
    صرخ قلبها بألم و هي تعنف نفسها بشدة على فقدها له, غير أنها لم تبد ذلك.
    -إنه الولد الوحيد وسط ست بنات رزقت بهن.. لا يمكنني أن أتخيل عدم رؤيته مرة أخرى.
    -لا يمكنني أن أقبل إلا بعد أن أدفع ما كان على أبي من دين.
    -إفعلي ما شئت.
    فتحت الخزانة التي كانت موضوعة تحت النضد و أخرجت منه رزمة من الأوراق المالية قدمتها له و هي تقول:
    -هل يكفي هذا المبلغ؟
    وضعه مباشرة في جيبه و هو يقول:
    -لا بأس.
    إبتسمت بتهكم و هي تقول:
    -لا يا سيدي. لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.
    و نادت قائلة:
    -حنان, هلا ناديت محمد و حسن من المخزن المجاور.
    -حالا.
    ردت سكرتيرتها و خرجت تنادي الرجلين بينما قالت "جميلة":
    -ستذهب معي إلى أقرب محامي لتوقع على إقرار بتسلمك مبلغ الدين مقابل تنازلك عن البيت لي.
    غمغم بإستسلام:
    -لا بأس.
    و ما أن حضر الرجلان و أخبرتهما "جميلة" بما تريد, حتى خرجوا قاصدين مكتب المحامي.
    * * *
    -وقعي هنا من فضلك يا آنسة "جميلة.
    قال المحامي بعد أن وقع "مختار" على الوثيقة التي تفيد بإستلامه مبلغ الدين مقابل تنازله عن البيت. و بعد ذلك وقع كل من "أحمد" و "حسن" كشاهدين.
    و لما إستلمت "جميلة" نسختها من الوثيقة و أرادت الإنصراف, قال "مختار":
    -إغفري لي يا إبنتي.
    تطلعت إليه "جميلة" بعنف, و فجأة بدت لها صورة "مجتبى" فقالت:
    -فعلت.
    و خرجت مع الرجلين تاركين مختار" و دموع الندم على وجهه.
    Dr: Milani
    Dr: Milani
    مشرفة روائع الروح والعقل
    مشرفة  روائع الروح والعقل


    انثى
    عدد المشاركات : 225
    رقم العضوية : 106
    المستوى : Specialist
    الاقامة : Khartoum
    نقاط النشاط : 16778
    السٌّمعَة : 0
    تاريخ التسجيل : 30/05/2009

    متميز رد: و أتى الربيع...

    مُساهمة من طرف Dr: Milani الأحد 05 ديسمبر 2010, 9:04 pm

    الفصل الرابع عشر

    عقدت "جميلة" العزم على العودة إلى قريتها و مغادرة المدينة بصورة نهائية بعد أن عاد إليها بيتها. و لما كانت علاقتها ب"مجتبى" قد إنتهت بتلك المأساوية, لم تجد مبررا واحدا لبقائها بالمدينة.

    و في نهاية ذلك الإسبوع ذهبت إلى منزل الحاج "إسماعيل" لتخبرهما بما إنتوته.

    -و لكن كيف تتركين عملك و قد أصبحت من أشهر مصنعي الملابس الصوفية يا بنيتي؟

    قالت "نادية" بصوت يغلب عليه البكاء, فربتت "جميلة" عليها و هي تقول:

    -إن عملي لن يتوقف يا عمتي. سأواصله و أنا هناك, و أرسل بما أتمكن من حياكته للمحل بصورة مستمرة بإذن الله.

    و إبتسمت و هي تكمل:

    -كما أن بعضا من النسوة اللائي كنت أقوم بتدريبهن قد أصبحن بارعات بالفعل, و يمكنك أن تعهدي إليهن بمهمتي من بعدي.

    -و تتركيننا؟

    قالت "نادية" ثم إنفجرت بالبكاء, فأخذتها "جميلة" بين ذراعيها مواسية, و غمغمت"

    -بل إنك ستجدينني بين حين و آخر معكم.

    و مسحت دموع "نادية" و هي تكمل:

    -كما أنني سأكون أكثر من سعيدة إذا أتيتما لزيارتي, لتتمتعا بطبيعة الريف.

    إبتسمت "نادية" و ردت:

    -نفعل بإذن الله.

    -أنتما هنا و أنا أبحث عنكما.

    قال الحاج "إسماعيل" بصوت متلهف, فسألته "نادية" بدهشة:

    -ما بك؟

    مد يده ل"جميلة" بمظروف عليه طوابع أجنبية, فإرتجفت, و بان الأمل في عينيها و هي تتطلع إليه.

    -إنه من "مجتبى".

    قال الحاج بسرور, فغمغمت "جميلة" بتردد:

    -لي أنا؟

    -بكل تأكيد.

    قال الحاج ثم خاطب زوجته و هو يغادر الغرفة:

    -هلا أتيت معي لبعض الوقت يا "نادية"؟

    لم تشعر "جميلة" بخروجهما, و تلك الرعشة تسري في جسدها, و قلبها يخفق بعنف. فتحت المظروف بأصابع مرتجفة و بدأت تقرأ:

    (حبيبتي "جميلة"..

    هل ستعقدين حاجبيك الجميلين لهذه الكلمة؟ رجاء لا تفعلي, فليس أبغض إلى نفسي من غضبك..)

    -كلا لن لأغضب.. قالت في نفسها و الدموع قد بدأت تترقرق في عينيها...

    (أعلم أنك قد عرفت بهجرتي إلى إنجلترا.. لا يمكنك أن تتصوري روعة هذه البلاد, و لكنك أيضا لن تستطيعي أن تتصوري مقدار ألمي و عدم قدرتي على الإحساس بروعتها, و أنت لست بجانبي)..

    -بل يمكنني, فأنا لا أشعر بأي طعم للحياة من دونك يا "مجتبى". قالت في نفسها و واصلت..

    (حبيبتي,

    لقد دخلت قلبي منذ ذلك اليوم الذي رأيتك فيه تحت تلك الشجرة.. أتذكرين ذلك اليوم؟ لم أكن أعرف من و لا من أين أنت. صدقيني. فأنا قد تركت القرية بعد وفاة والدتي و زواج أبي من زوجته الثانية لأقيم في السكن الداخلي لطلاب الثانوية. كان عمري آنذاك خمسة عشر عاما, و أظن أنك كنت في عامك السادس على الأكثر. و لم أكن آتي إلا كل سنة أو ستة أشهر, لأقضي يوما واحدا مع أبي.. الذي أصبح لديه زوجات و بنات.. لم أكن أهتم إلا بالدراسة و التحصيل الأكاديمي حتى تخرجت –كما تعلمين- بدرجة إمتياز من كلية الهندسة. و بتوفيق من الله وجدت وظيفة مع الحاج "إسماعيل" الذي عاملني كإبن له تماما. و أنا أدين له بكل ما أنا عليه الآن..

    لذا لن تستغربي إذا قلت إنني لم أعرف من تكون تلك الجميلة الخجول.. و صدقيني عندما أقول ذلك, فإن وجودي في المدينة جعلني أعتاد على رؤية الفتيات المتصنعات عديمات الحياء. كما أنك كنت على طبيعتك, لم تصبغي خدا و لا شفاه.. لقد أحببت ذلك الجمال الطبيعي,و تلك المسحة من الحياء و العناد..).

    -آه يا حبيبي.. قالت و الدموع تغرق خديها.. و ضمت الرسالة إلى صدرها قبل أن تواصل..

    (و بعد أن إفترقنا.. بت أراك كل ليلة في أحلامي.. و لكم لمت نفسي على عدم لحاقي بك لأعرف أين تسكنين.. و لما رأيتك في الشركة, فرحت جدا, و لكنني خبأت تلك الفرحة تحت مظهر القسوة حتى لا أفضح أمري أمام سليطة اللسان.. أنت.. و الله وحده يعلم كم سهرت الليالي و أنا أدعوه أن يحقق أمنيتي.

    أعلم أنك كنت تتعجبين من صراخي و حماقاتي التي كنت أفعلها, و لكن ذلك كله مبعثه شوقي إليك, و لهفتي عليك, و خوفي من أن أصحو فأجد أنك كنت وهما من صنع مخيلتي.)

    -أيها السخيف.. قالت بإبتسمة صغيرة, ثم عادت تقرأ:

    (أتعلمين كم بلغ بي الخوف يوم سقطت فاقدة الوعى أمامي؟ أتعلمين كم بلغ بي الغضب لما شخصك الطبيب بفقر الدم لقلة الطعام؟ لقد كدت يومها أقتلك قبل أن أقتل زوجة عمك.. كيف لا تلجئين إلي و تخبرينني؟؟ فقط لأجد أنه لا حق لي عليك لأطلب ذاك الأمر..

    حبيبتي:

    كان أتعس لحظة عشتها ساعة رفضتني, و لكن العمة أعادت إلي الأمل و هي تطلب مني الصبر.. ثم كانت أسعد لحظات حياتي لما علمت بقبولك الإرتباط بي –و لو بعد حين-..).

    -لقد كانت أسعد لحظات حياتي أيضا.. همست لنفسها..

    (لقد عشت أسعد الشهور و أنا أصحو لأسرع إلى الشركة لأراك, و أسرع إلى النوم راجيا الصباح التالي.. و لما لم أتمكن من الصبر رحلت إلى القرية و أعلمت أبي بالأمر. أردت أن أفاجئك , لكن يا حسرتي كانت المفاجأة من نصيبي أنا.

    حبيبتي:

    أعلم أنني لو ظللت أعتذر حتى نهاية عمري فلن أحصل على مغفرتك. أعلم ان ما فعله أبي –سامحه الله- كان قذرا جدا.. و أعلم أنني ميت لا محالة لفقدانك أيتها الغالية.

    -لا تقل ذلك.. هتفت بجزع.. فداؤك روحي يا حبيبي..

    (والآن أكتب إليك هذه الرسالة, و أرجو أن تقرئيها.. و لكنني لن أغضب إن لم تفعلي, فلم يعد لي في هذه الدنيا رجاء.

    حبيبتي:

    كنت أول إمرأة أحببتها و ستكونين الأخيرة, و أعلمي أنك بقلبي و ستظلين, إلى الأبد.

    المخلص,

    "مجتبى".).

    ما أن إنتهت من قراءة الرسالة حتى ضمتها إلي قلبها و سقطت على ركبتيها و هي تجهش بالبكاء..

    -إنني أحبك يا "مجتبى", و لم و لن أحب أحدا آخر.. غضبي و حماقتي هما الوحيدان المسئولان عن التعاسة التي نعيشها و سنعيشها.. لكم أتمنى لو عاد بي الزمن لأهمس بحبي كله لك.. و كم أتمنى لو أنني لم أُنه ما كان بيننا..

    و إندفعت تقلب المظروف باحثة عن العنوان, غير أنها لم تجد شيئا.. كان الطابع يشير إلى صدور الخطاب من مدينة شيفلد فقط.

    -كيف تفعل ذلك بي؟ لم لم تكتب عنوانك على المظروف يا "مجتبى".

    صرخت بتلك العبارة و هي تلطم خديها و تبكي..و لم يجبها إلا الصمت...

    * * *
    Dr: Milani
    Dr: Milani
    مشرفة روائع الروح والعقل
    مشرفة  روائع الروح والعقل


    انثى
    عدد المشاركات : 225
    رقم العضوية : 106
    المستوى : Specialist
    الاقامة : Khartoum
    نقاط النشاط : 16778
    السٌّمعَة : 0
    تاريخ التسجيل : 30/05/2009

    متميز رد: و أتى الربيع...

    مُساهمة من طرف Dr: Milani الإثنين 13 ديسمبر 2010, 10:11 pm

    الفصل الأخير

    مرت ثلاثة أعوام مذ هاجر "مجتبى" و عادت "جميلة" إلى قريتها الصغيرة لتقيم في بيتها من جديد...
    كان بيتها من الطين, تعرشه أعواد القصب و من فوقها غطاءا بلاستيكيا ليمنع مياه الأمطار من التسرب –و إن كان في أغلب الفترات لا يفعل- و لم تكن الكهرباء من الأشياء المتاحة في القرية, فكانوا يستعملون مصابيح الزيت..
    يحوي البيت غرفتين للنوم, و مطبخا , و غرفة إستقبال للرجال , و أخرى للسيدات, و مرحاضا و حجرة صغيرة للإستحمام.. بكل من غرفتي النوم فراشان و خزانة ملابس و مرآة للزينة, و بكل غرفة إستقبال ستة مقاعد خشبية وضعت عليها وسادات مريحة, و منضدتان خشبيتان.
    في تلك الفترة, كان عملها في حياكة و بيع الملابس الصوفية قد إزدهر, و صارت إسما لا يستهان به في السوق.. و على الرغم من قلة ربحها, فإنها أصرت على تزيين بيتها في غير ما تكلف.. فقامت بطلاء الجدران باللون الأبيض, و وضعت الستائر ذات الألوان الزهرية, و خاطت تحت سقف القصب قماشا يقارب لون الستائر , كما نثرت المزهريات التي تحوي أزهارا ظلية - قامت بزراعتها- في أرجاء بيتها, بينما زرعت الورود ذات الأريج العطر أمامه و على جانبيه.
    و قد عمدت أن تشغل كل لحظات يومها, حتى أنها صارت تعلم نساء القرية و فتياتها الحياكة دون مقابل, ثم في المساء تسرع إلى فراشها بعد أن تؤدي صلاة العشاء و هي خائرة القوى.. كانت تفعل ذلك حتى لا يجد التفكير في "مجتبى" سبيلا إليها, و لكن على الرغم من كل إحتياطاتها, فذكراه لما تفارقها أبدا..
    في ذلك اليوم, إستيقظت مع صوت آذان الفجر, لفحت أنفها رائحة الفجر الممزوجة بعبير الورود.. فتحت نافذة غرفتها, و إتكأت عليها.. تنشقت الهواء بعمق.. إنحنت إلى الخارج و قطفت وردة حمراء, فتذكرت ذلك اليوم الذي فاجأها فيه "مجتبى" و هو يحمل باقة من الورود الحمراء.. دمعت عيناها و هتفت من أعماق قلبها..(عد إلي يا "مجتبى")..
    و بعد قليل إستجمعت أمر نفسها فذهب تغتسل و تؤدي فريضة الفجر داعية الله أن يعيده إليها..
    بعد أن أتمت صلاتها, إتجهت إلى المطبخ. صنعت على موقد الزيت كوبا من الشاي حملته معها إلى نافذة غرفتها, حيث جلست على إطارها و إحتست الشاي و هي تحدق بعيدا...
    صياح الديوك, غثاء الماعز, و خوار الأبقار جاءها كأعذب الأنغام الموسيقية, فإبتسمت, و هي تلمح الفلاحين في غدوهم المبكر إلى حقولهم.
    نهضت و إرتدت خمارها متجهة إلى خلف البيت حيث قامت بزراعة بعض الخضراوات لتكفيها مشقة الشراء من السوق الموجودة في أقصى أطراف القرية.. تطلعت إليها بعناية و قامت بنزع كل الحشائش الضارة و من ثم سقتها.. ثم إتجهت إلى قن الدجاج – و كانت فيه ست دجاجات و ديكان – لوحت لهم و هي تحدثهم بإلفة و تلقي بالحبوب في الإناء المخصص ثم تملأ الإناء الآخر بالماء.. و وجدت أربع بيضات جمعتهن عائدة إلى المطبخ.
    -"جميلة" صباح الخير.
    صوت "سكينة" جارتها أتاها فردت بهدوء:
    -صباح الخير يا خالة.
    جلست "سكينة" دون إستئذان و تلفتت حولها ثم قالت بغيرة واضحة:
    -يبدو أنك قد أصبحت من الأغنياء يا "جميلة".
    ضحكت الأخيرة و هي ترد:
    -من الأغنياء؟ لا أعتقد يا خالة.
    -هل تخافين من الحسد أم ماذا؟
    قالت "سكينة" و قبل أن ترد "جميلة" واصلت:
    -سمعنا أنك قد صرت من سيدات الأعمال في المدينة و أن لديك عددا من محلات بيع الملابس الصوفية.
    إبتسمت "جميلة" بهدوء و قالت:
    -هذا من فضل ربي.
    تطلعت إليها الجارة بحقد, ثم قالت:
    -أما كنت تزوجت و أرحت نفسك من كل هذه الهموم؟
    عقدت "جميلة" حاجبيها قائلة بضيق:
    -أرجو ألا تتطرقي لهذا الأمر مرة أخرى يا خالة.
    لم تنتبه "سكينة" للهجة "جميلة" المتضايقة فأردفت:
    -إن الزواج هو هدف كل فتاة, أما ترين بناتي و قد تزوجن و هن في مثل عمرك و أصغر.
    -يكفي يا خالة.
    واصلت نفث سمومها:
    -إن الزواج ستر للفتاة, فهل تريدين أن تبقي وحيدة حتى تصيري مضغة للأفواه, و ستصبحين.
    قالت كلمتها الأخيرة بخفوت غير أن "جميلة" سمعتها و ردت بحدة:
    -إن أتيت للزيارة فقط, فإنني أستأذنك فلدي أمر طارئ لابد أن أقوم به.
    نهضت الجارة و هي تشعر بالغيظ و خرجت.
    أخذت "جميلة" نفسا عميقا و هي تحاول منع دموعها من الإنهمار و قد ذكرتها "سكينة" بالذي مضى.
    * * *
    صباح اليوم التالي إرتدت "جميلة" ملابس الخروج و تدثرت بوشاحها الصوفي المفضل فعلى الرغم من أن الشتاء قد إنتهى, إلا أن نسمات الصباح ما زالت باردة..
    عرجت على منزل "مختار" الذي أقعدته السنون و غياب ولده الوحيد.. كما أن كل بناته تزوجن و إنتقلن إلى بيوت أزواجهن, و لم يبق معه غير زوجته الأخيرة –إبنة "سكينة"-. كانت "جميلة" قد أزاحت ما كان بينهما من مواقف جانبا, و صارت تزوره إكراما لذكرى "مجتبى", الذي لم يحاول أن يرسل أي خطاب لوالده في السنوات الثلاثة المنصرمة..
    -"جميلة", إبنتي, كيف حالك؟
    قال "مختار" ببشر, فإبتسمت "جميلة" و جلست على مقعد جوار فراشه, و هي تقول:
    -بخير حال يا عمي.
    عاود الإستلقاء على فراشه و أظلمت عيناه و هو يقول:
    -أتعلمين, صرت الوحيدة التي تزورني.
    و أردف بنبرة مريرة:
    -حتى بناتي قاطعنني –بعد أن قاطعني كل الناس- و لم تعد إحداهن تزورني.
    ربتت على يده بعطف و تمتمت:
    -لا أظن ذلك صحيحا. ربما كن مشغولات فقط.
    قهقه بتهكم ثم قال:
    -كم أنت طيبة.
    و رنا إليها بإعتذار و غمغم:
    -لا أدري كيف تمكنت من مسامحتي على ما فعلته.
    قاطعته:
    -لا تقل ذلك.
    -لو لم تكوني كريمة الاصل و الخلق لما فعلت ذلك.
    و أطلق آهة عميقة من صدره و دمعت عيناه و هو يقول:
    -إنني لا أستحق شفقتك أبدا.
    أمسكت بيده و هي تقول بثقة:
    -لا تقل ذلك مرة أخرى. ثم لماذا أشفق عليك؟ إنني أزورك كما كان أبي –رحمه الله- سيفعل لو كان حيا.
    -رحمه الله.
    و صمتا قليلا قبل أن يقطع الصمت بقوله:
    -يا ليتي مت و لم أتسبب بسفر "مجتبى".
    إمتقع وجهها و لاذت بالصمت و هي تحاول منع دموعها من الإنهمار.
    -ألم يبعث إليك في الآونة الأخيرة؟
    سألها بلهفة فهزت رأسها و أجابت:
    -لم يبعث سوى تلك الرسالة لما هاجر.
    -لو كنت أعلم بمكانه لسافرت إليه.
    قال "مختار" بصوت حزين متألم, فأسرعت "جميلة" بالخروج قبل أن تغلبها دموعها..
    سارت و هي غارقة في أفكارها حتى بلغت تلك الشجرة التي إلتقت عندها "مجتبى" للمرة الأولى. كانت تأتيها من حين لآخر كلما برح بها الشوق. جلست القرفصاء و إتكأت على جذع الشجرة و أغمضت عينيها اللتين بدأ الدمع يتساقط منهما, ثم رفعتهما إلى السماء و هي تقول من أعماق قلبها (يا إلهي.. إرحمني و أعده لي)..
    وضعت إحدى ذراعيها حول ركبتيها و أخذت ترسم بإصبعها على الأرض كوخا حوله أشجارا و أمامه بحيرة.. ثم رسمت شمسا, إلا أنها سرعان ما أحاطتها بسحب كثيفة.. (إن حياتي غائمة كهذه الصورة).. ثم أخرجت رسالة "مجتبى" من جيبها و بدأت تقرأها و تتأوه و الدموع تغرق عينيها.. و لما وصلت إلى نهاية الرسالة بدأت تقرأ بصوت يعلو عن الهمس قليلا:
    - كنت أول إمرأة أحببتها و ستكونين الأخيرة, و أعلمي أنك بقلبي و ستظلين, إلى الأبد.
    بدا لها و كأن صوت "مجتبى" يأتيها فإبتسمت بحزن.
    -كم أعشق هذه الإبتسامة.
    جاءها صوته الدافئ الحنون فإرتعشت و هي تستدير حولها.
    -لا يمكن أن تكون هنا حقيقة.. لا ريب أنه حلم جميل.
    قالت بحروف مرتعدة و هي تغمض عينيها و تفتحهما.
    -إنه أنا حقيقة يا "جميلة".
    تساقطت الدموع من عينيها بصمت و قد ألجمتها المفاجأة.. فمد يده يمسح دموعها بحب..
    -هل أنت هنا حقيقة يا "مجتبى"؟
    ثم صرخت و تفجرت دموعها و هي تضرب صدره بقبضتيها:
    -أيها القاسي, كيف تسافر و تتركني؟
    تطلع إليها بدهشة ثم أمسك يديها و هو يهتف:
    -أتطردينني ثم تلومينني؟
    بكت بمرارة و دفنت وجهها بين يديها و هي تقول:
    -لقد وعدتني بأنك لن تتركني وحيدة أبدا.
    و رفعت رأسها تقول بإتهام:
    -و ماذا حدث؟, عند أول فرصة رحلت!
    أخذ يتطلع إليها بعاطفة ممزوجة بالأسف:
    -ليس لدي عذر.
    ثم تحرك يريد الذهاب فإستوقفته:
    -أستتركني مجددا؟
    إخترق صوتها الكسير قلبه, فإرتد على عقبيه و تناول كفيها بين يديه قائلا:
    -لن يحدث هذا ما حييت بإذن الله.
    شعرت بالخجل من نفسها فسحبت يديها و أشاحت بوجهها, بينما إتكأ على الشجرة و هو يقول:
    -كم أحب هذه الشجرة.
    ثم إلتفت إليها قائلا بعاطفة:
    -و لكنني أحب الفتاة الجالسة تحتها أكثر.
    وقفا يتطلعان إلى بعضهما بلهفة و شوق, إلى أن قطعت "جميلة" الصمت و هي تقول:
    -لم عدت؟
    -هل تكرهين عودتي؟
    قال بتوتر و قد بدأ الخوف من صدها يعود إلى قلبه.
    سارعت تنفي:
    -لا بالتأكيد. و لكنني فهمت أنك لن تعود أبدا.
    تطلع إلى البعيد و هو يبتسم قائلا:
    -أتصدقين إن أخبرتك أنني سمعت صوتك يقول: ( عد إلي يا "مجتبى")؟
    بدا عليها الذهول و هي تقول:
    -و متى كان ذلك؟
    -صباح الأمس.
    -هذا لا يعقل.
    -أعتقد ذلك.
    و صمت قليلا قبل أن يردف:
    -و لكنني لما سمعت الصوت, لم أعد أطيق صبرا فعدت و كلي أمل في أن تكون تلك نبوءة ستتحقق.
    قال بأمل و هو يتطلع إليها برجاء, فإبتسمت و أطرقت قائلة:
    -لقد هتفت بتلك العبارة صباح الأمس.
    حان دوره ليصاب بالذهول:
    -أفعلت ذلك حقا؟
    -بلى.
    صمتا ليتطلعا إلى بعضهما ثانية..
    -هل صفحت عني؟
    قال "مجتبى" فردت بسرعة:
    -لا يوجد ما يستدعي ذلك.
    ردت بحنان, ثم تذكرت:
    -لم لم تكتب عنوانك على الرسالة؟
    -ألم أفعل؟
    قال بدهشة فعبست و هي ترد:
    -لا تدري كم تألمت لما لم أجد عنوانا لك على المظروف.
    -أكنت ستراسلينني؟
    سألها بهمس, فردت بسرعة:
    -بالتأكيد.
    و خفضت صوتها و هي تكمل:
    -كما أن والدك كان يتمنى لو بعثت بعنوانك فقد كان يريد أن يسافر إليك ليعتذر و يأتي بك.
    -أبي؟
    قال بدهشة, فتطلعت إليه بلوم:
    -أجل, أباك أيها العاق. كيف سمحت لك نفسك أن تقلقه عليك إلى هذا الحد؟
    إبتسم بحزن:
    -لم يسأل أبي يوما عني.
    -كان ذلك في الماضي.
    -أتعجب لسؤالك, ألم تكوني على خلاف معه؟
    قال بدهشة فإبتسمت و هي ترد:
    -تصالحنا منذ زمن بعيد, ثم أنه قد رد لي بيتي.
    هتف بفرح:
    -أو قد فعل؟
    قصت عليه تلك الأحداث بسرعة, و لما توقفت قال:
    -الحمد لله أن سفري جاء بنتيجة إيجابية.
    ثم سألها:
    -و ماذا تفعلين في القرية؟ أأنت في عطلة؟
    هزت رأسها مجيبة:
    -كلا. أتيت لأقيم هنا بعد علمي بسفرك.
    و إنخفض صوتها و هي تكمل بحزن:
    -لم أطق البقاء هناك و أنت غير موجود, و
    قطعت عبارتها فهمس في أذنها:
    -يا إلهي, كم كنت غبيا حتى أسافر.
    و إندفع يضحك ثم قال:
    - أتعلمين, لما لم تردي علي –و كنت أظن أنني قد كتبت العنوان- يئست من عودتك إلي, لذا لم أرسل أية رسالة أخرى و لا حتى لأبي.
    صمتا من جديد قبل أن تقول:
    -كيف وصلت إلى هنا؟ إنني لم أرك مقبلا!
    -تعطلت بي السيارة على بعد عشر دقائق من هنا, فأتيت سائرا على قدمي, و لما لمحتك من بعيد, إتخذت الطريق خلفك حتى أفاجئك.
    و صمت قليلا قبل أن يهمس:
    -لم كنت جالسة هنا؟ هل تنتظرين أحدا؟
    ردت بحياء:
    -بكل تأكيد.
    بدا عليه الخوف و هو يسأل بتوتر:
    -من تنتظرين؟
    أشاحت بوجهها و هي تقول بدلال:
    -ذلك الشاب الذي هرب إلى إنجلترا و تركني وحيدة.
    وضع يديه على كتفيها و أدارها لتواجهه و هو يقول بلهفة:
    -كنت تنتظرينني أنا؟
    -و من غيرك؟
    أبعد يديه عن كتفيها و قد فاضت عيناه بالمشاعر مما جعلها تطرق.
    همس قائلا:
    -أتقبلين الزواج بي؟
    إبتسمت بحياء و سعادة و لم تجب فأسرع يقول:
    -الصمت علامة على الرضا..
    إبتسمت و هي تومئ برأسها.. و سارا بإتجاه القرية و هو يقول:
    -لم أسألك عن العمة و الحاج "إسماعيل"؟ كيف حالهما؟
    -بخير, كانا معي قبل بضعة أسابيع.
    -أتظنين أن بإستطاعتهما المجيء بعد عدة أسابيع أخرى؟
    قال بخبث, فإزدادت سعادتها و هي تومئ برأسها إيجابا.
    واصلا سيرهما نحو القرية و الورود من حولهما تعلن بداية الربيع...

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد 19 مايو 2024, 11:24 am